بقلم:خالد منتصر
هذا السؤال كان دائما يلقيه الصحابة على النبى عندما كانت تلتبس عليهم المسائل، وتتطلب منهم المشورة، أو يمارسون ما يسمى بلغة الحاضر العصف الذهنى، كان الواحد منهم قبل أن يدلى بدلوه فى قضية من القضايا المعروضة، يسأل النبى، هل ما قاله هو من قبيل الوحى، أم هو رأيه الخاص، وعندما كان النبى يخبرهم بأنه رأيه الخاص، وكأنه قد رفع الحرج عنهم، فينطلقون فى عرض آرائهم بكل حرية، وبدون خوف، وبأصوات واثقة غير مرتعشة، والمفاجأة أنهم كانوا فى أحيان كثيرة، يقولون رأيا معارضا لاقتراح الرسول نفسه، كانوا بالطبع يقولون رأيهم المعارض والمخالف باحترام، لكنهم فى النهاية كانوا يقولونه دون حجر عليه أو مصادرة، تكرر هذا فى مواقف كثيرة، منها مواقف عسكرية، ومنها ما قيل فى اعتراض عمر بن الخطاب على شروط صلح الحديبية عندما قال للنبى ألست نبى الله؟ ألسنا على الحق؟ فلمَ نعطى الدنية فى ديننا؟، وهدأ النبى من روعه قائلا: إنى عبدالله ولن يضيعنى، واختلاف عمر أيضا فى مصير أسرى بدر، الحوار الذى جرى حول البقاء فى المدينة للدفاع عنها أو الخروج فى غزوة أحد، مواقف كثيرة لخصها قول بليغ للنبى حين قال فى حادث تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، درس مهم لابد من استيعابه فى تلك الأيام ونحن نناقش قانون تنظيم الفتوى الذى أعتبره أنا شخصيا احتكارا، مع كامل احترامى لمناقشات البرلمان المبجل، وأقول مبرراتى لرفض احتكار الفتوى، وتحويلها إلى لجان محدودة، والأخطر أن من سيدلى بدلوه معارضا الفتوى النهائية سيتم سجنه ستة أشهر وتغريمه مائة ألف جنيه!، فالفتوى فى النهاية رأى، والرأى لا يمكن تأميمه واحتكاره، وبما أن الوحى قد انقطع، ومستحيل أن نسأل كما سأل الصحابة النبى «أهو الرأى أم الوحى؟»، فيجب أن نؤمن بأنه فى النهاية مجرد رأى، وليس الرأى، ليس الجامع المانع، فنحن بداية نقصر هذا الرأى على عدد محدود، والأهم أنهم أصحاب مذهب واحد فقط، وأرضية فكرية مذهبية عقائدية واحدة فقط، فالمعروف تاريخيا أن أكثر العصور ازدهارا فى تاريخ المسلمين هى التى كانت تموج بأفكار فلسفية متنوعة وحوارات دينية مختلفة ومتباينة، وكانت تغوص أحيانا فى عمق المسكوت عنه، حتى ما نطلق عليه الآن ثوابت، فالشعراء كانوا يكتبون قصائد، لو كتب شاعر منها الآن ربع بيت، وطبقت عليه مقاييس الحاضر سيكون مصيره التعليق على باب زويلة!، كان هناك الشيعة والمعتزلة، كانت هناك حوارات إخوان الصفا، كانت أبيات «أبونواس» و«المعرى» الصادمة تحفظ وتقال فى الساحات، وكان الرازى يفتش فى المسكوت عنه ويصدم ويتصادم مع السائد والمألوف، ويتهمونه بالمروق، لكنه يكتب ويقول بدون لجان احتكار، وسأعطى لكم مثالا واحدا على أهمية تنوع الفتوى، وسيصدم البعض بأنه قد تمت الاستعانة برأى الشيعة إنقاذا لمشكلة حدثت فى أثناء غرق العبارة، ولم يجد المشايخ وقتها حلا لها، وهى أن شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوى عندما كان مفتيا لجأ الى الفقه الشيعى ليلتمس عنده الحل لمشكلة عويصة؟
وأنا أنقل ما قاله وقتها المستشار الدمرداش العقالى، رئيس محكمة الاستئناف السابق، عن تلك السابقة فى الاستعانة بالفقه الجعفرى فى مصر والذى كان ينتمى إليه العقالى!، يقول المستشار الدمرداش، «كنت عضوا فى مجلس الشعب المصرى وقت أن غرقت عبارة «سالم اكسبرس» وهلك فى الحادث قرابة 1200 نفس، إذ انتشلوا من البحر 500 جثة ولم تُتنشل 700 جثة، وصار لزاما على الشركة المالكة للباخرة دفع التأمين لورثة الركاب، وتوافد الناس من كل أنحاء مصر لأخذ التعويضات، وقبل أن تصرف الشركة التعويض تنبه احد محاميّ الشركة وقال: حسب مذهب أبى حنيفة، المفقود لا يعتبر ميتا حتى تمضى عليه مدة قدرها ستون عاما!. ولم يرق لرجال القانون فى مصر حكم أبى حنيفة، فأخذوا يبحثون عن فقيه آخر يخرجهم من هذا المطب، ففى فقه احمد بن حنبل حكم المفقود 15 سنة، وابن تيمية أنقص المدة الى خمس سنوات، وطلب محامى الشركة الانتظار خمس سنوات، فتظاهر الناس امام المجلس».
ويضيف الدمرداش: «وكُلف مفتى مصر الشيخ محمد سيد طنطاوى بإيجاد منفذ للخروج من هذا المأزق، فجاءنى بعد الفجر فى بيتى وقال لي: ألا يوجد عندك حل؟ فدعوته لقراءة «فقه المذاهب الخمسة»، وطالعنا مسألة المفقود، فقرأ بنفسه عن الامام الصادق أن المفقود إذا فقد فى حال لا تُتصور معها بقاء الحياة، عُد ميتا ولو بعد ساعة، كأن يكون قد دخل فى النهر ولم يخرج، أو ابتلعه حوت فلم يخرج، أخذ المفتى نفسا عميقا وقال: والله هذا الكلام المعقول وسأكتب فتوى بهذا المعنى، ستُقرأ على اعضاء مجلس الشعب، وفوجئت بأنه كتب الفتوى، وقال فيها: يقول بعض اهل العلم! فلما تُليت الفتوى فى مجلس الشعب وفيها كلمة «يقول بعض أهل العلم»، اعترض وزير الأوقاف السابق، فوقف يقول: من أين جاء المفتى بهذا الكلام؟ هذا كلام ليس له أساس، أين أهل العلم هؤلاء؟ فإذا برئيس المجلس يُنطقه الله ويقول للأعضاء: فضيلة المفتى واسع الاطلاع، لابد وأنه اطلع على رأى الشيعة الامامية»، وأقول لكم اسألوا أنفسكم إذا تبنت اللجان المتخصصة الرأى السائد فى تلك المسألة ومنها رأى وزير الأوقاف وقتها، ولم يكن الله قد ألهم الشيخ طنطاوى سؤال شخص شيعى عن القضية، ما هو الوضع وقتها؟، هل كنا سنسجن صاحب الفتوى الذى أنقذ الوضع ونغرمه مائة ألف جنيه؟.