توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

طب وأطباء فى حياتى

  مصر اليوم -

طب وأطباء فى حياتى

بقلم - جميل مطر

 كان يقال إننى ولدت على يد جد الزميل والصديق وزير الخارجية الأسبق أحمد ماهر طبيب العائلة الممتدة وعيادته فى شارع فاروق، على المسافة الواقعة بين باب الشعرية والعباسية، ولدت ومعى مرض حساسية قوية. كان بين من اكتشفوا هذا الأمر مبكرا الطبيب الأشهر الدكتور الظواهرى فى عيادته الكائنة وقتئذ قرب المبنى القديم لجريدة الأهرام وبقى معنا يراقب حالتى ويشخص ويعالجنى على امتداد سنوات طفولتى ومراهقتى.

• • •

عشت أيضا، طوال هذه السنوات وسنوات عديدة أخرى أعانى من احتقان شديد فى الحلق والتهاب فى اللوزتين. أذكر طبيبا آخر لازمنى حتى أوائل عقد الخمسينيات من القرن الماضى عندما أجبرته الظروف السياسية على الرحيل من مصر إلى أوروبا وربما منها إلى إسرائيل. أذكره رجلا محبب الوجه وأنيق الملبس يهودى العقيدة ويسكن حى السكاكينى، وكعادة أطباء كثيرين فى ذلك الوقت كان متعدد التخصصات ولا يرفض الدعوة لزيارة المرضى من الأطفال فى مواقع سكناهم، أذكره يدخل إلى الغرفة التى أرقد فيها، يضع حقيبته على المائدة القريبة من فراشى ويخرج منها كيسا من الحلوى ومعه وعد بأن يتركه لى قبل أن يغادر.

• • •

استمرت معاناتى نتيجة احتقان اللوزتين تتسبب فى تعدد حالات تغيبى عن المدرسة وحتى سنوات الدراسة الجامعية وبعدها خلال سنوات العمل الدبلوماسى. رفض أبى وأنا من بعده إجراء عملية استئصالهما إلى أن هاجمنى الاحتقان بعنف غير مألوف وأنا فى العاصمة التونسية حين كانت تستضيف جامعة الدول العربية. كانت إحدى المرات التى اضطرت فيها زوجتى إلى نقلى إلى مستشفى، حيث قرر الأطباء بحزم ضرورة إجراء عملية استئصال اللوزتين فور عودة حال الجسم إلى طبيعته. وبالفعل جرى الاستئصال عند العودة النهائية إلى القاهرة، أى بعد أن تجاوزت نهاية العقد الرابع من عمرى وتحت ضغط عائلتى الصغيرة وبخاصة عندما قرر الأطباء أن استمرار تفاقم حالات الاحتقان قد يتسبب فى تهديد حقيقى لحياتى.

• • •

لم يكن احتقان اللوزتين المرض الوحيد الذى أقعدنى الفراش لمدد ومرات عديدة فقد عانيت من آلام فى فقرات الظهر منذ أن أصيبت عندما أخطأت فى قذف الكرة الثقيلة أثناء مباراة فى لعبة «البولينج». كنت أقضى إجازة قصيرة فى زيارة لفاضل وهيبة القائم بأعمال سفارتنا فى مدينة مونتيفيديو عاصمة الأوروجواى وكانت تبعد عن بيونس آيرس، العاصمة التى كنت أعمل فيها، عشرات الأميال البحرية، لا أكثر. دعانى الزميل خلال الزيارة لقضاء نهاية الأسبوع فى منتجع لعله الأشهر فى أمريكا اللاتينية، إذ تؤمه كل صيف العائلات الأكثر ثراء والأرقى مكانة فى دول القارة. هناك جمعتنا بفريق من شباب الأوروجواى والبرازيل رحلات وسباقات إحداها كانت مباراة فى لعبة البولينج حينها أسأت تقدير قدرة أو مرونة فقرات ظهرى فوقع المحظور.

• • •

قيل فى توصيف الحالة أن غضروفا خرج من مكانه ليهاجم العصب فى كل حركة أؤديها أو حتى أنتويها، ليتسبب فى آلام لم أتصور يومها ولا فى أيامى اللاحقة أن أحدا قبلى يمكن أن يكون تعرض لها وعاش بعدها. نقلت من مونتفيديو إلى بيونس آيرس محمولا وقضيت فى المستشفى أسبوعين خرجت بعدهما ومعى نبوءة من الطبيب المعالج. تنبأ الرجل بآلام مريعة حتى نهاية العمر، آلام لن تتوقف، تهدأ بالأقراص والحقن المخدرة لتعود صاخبة وعنيفة فور انتهاء مفعولها. قال إن رمية كرة البولينج مزقت عضلات فتغيرت معالم واختلت توازنات وأخرجت غضاريف من مخابئها فاختفت أو كادت تختفى إلى الأبد مرونة جسد من قمة رأسه إلى أصابع قدميه.

• • •

أشهد بأن الطبيب الشاب كان وزملاؤه كرماء بالمتابعة الشخصية والعائلية إلى أن غادرت الأرجنتين وأجريت فى القاهرة الجراحات العديدة التى أوصوا بها. أجريت عملية كبرى فى أحد أكبر مستشفيات القاهرة وهناك قضيت ما يقارب الشهر. وبعد عامين أو أكثر أجريت لى بعد تردد شديد من العائلة عملية أخرى فى شقة بمبنى تجارى فى حى الروكسى وأخرى فى مستشفى  فى موقع آخر من مصر الجديدة تملكه جالية أجنبية.

• • •

الغريب فى حكايتى نهايتها. الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على آخر جراحة فى ظهرى، فجأة وقد اقتربت من التسعين وبدون تهليل أو ابتهاج مبالغ فيه، أشهد باختفاء كل الآلام وعودة العود إلى استقامته والرؤية إلى صفائها بعد عقود، بل عمر، من العذاب.

• • •

كلما حكيت لأحد عن ضخامة تكلفة العلاج بالمستشفيات الخاصة فى مصر، عادت بى الذاكرة إلى الفاتورة «التاريخية» التى وردت لى بالبريد العادى على عنوانى بالسفارة المصرية فى بكين والصادرة من قسم الحسابات بالمستشفى الكبير فى بكين متضمنة تكاليف علاج زوجتى عن فترة حملها وبالتحديد منذ ليلة إصابتها بالإعياء الشديد، نتيجة السفر الطويل وهى فى أوائل حملها من نيودلهى إلى بكين، إلى يوم ولادة ابننا سامر، أى على امتداد تسعة شهور من الإشراف الدقيق والزيارات المنزلية وزياراتها المتعددة إلى المستشفى ثم الولادة تحت إشراف مجموعة متميزة من الأطباء والإقامة لمدة أسبوع بعد الولادة، أتذكر انبهارى بالرقم المسجل على الفاتورة محسوبا بالعملة الصينية، وكان يعادل ما يقترب من مبلغ أربعة عشر جنيها مصريا لا غير. رفضت بكل العزيمة أن تتحمل وزارة الخارجية هذا المبلغ  وأصر السفير اللواء حسن رجب على تحميله لها وتسجيله فى وثائقنا الرسمية  باعتباره، حسب رأيه، نموذجا آخر على ما حققته الصين على يد الرئيس ماو تسى تونج من إنجازات اجتماعية.

• • •

يُحكى أننى، وكنت اقتربت من الستين، استيقظت صباح يوم جمعة على آلام مبرحة فى صدرى. لحسن حظى وحظ من حولى ووسط ارتباك شديد فى منزلى اتصل فهمى هويدى الزميل فى الأهرام للدردشة الصحفية التى كنا نمارسها بين الحين والآخر، وبالمناسبة عدنا نمارسها الآن وكلانا على أبواب التسعين. المهم فى حكايتى أن الأستاذ فهمى توسط لنا لدى الدكتور مصطفى محمود ليرسل لنا سيارة إسعاف ويحجز مكانا فى المستشفى الذى يملكه وينفق عليه. قيل لى فى الأيام التالية أن تدخل الزميل فهمى من جهة ثم تدخل آخر من الأستاذ هيكل بعد منتصف الليل ليحصل للمستشفى على حقنة نادرة، كل منهما فى حينه مد فى عمرى.

• • •

نسيت أن أذكر أننى نشأت فى عائلة لم تنجب قبلنا من صار طبيبا أو طبيبة. قررت الأقدار فى نهاية الأمر أن ينضم ابنى إلى سجلات هذه المهنة ومن بعده انضم آخرون. لدينا الآن سامر وفريد ومحمد وباسل، كلهم أطباء فى عائلتى الممتدة قليلا، وكلهم بدون استثناء منتشرون بين الولايات المتحدة وكندا والإمارات العربية المتحدة، وهم متوزعون على التخصصات التالية، الجراحة وأمراض النساء والسموم والتحاليل الطبية. إن نسيت فلن أنسى أننى عشت أفاخر بهم القوم، أغرابا كانوا أم أقارب. أشعر وأنا معهم شعور من سدد دينا كبيرا لأطباء كثيرين من شتى الجنسيات والثقافات عالجونى وعالجوا من أحببت على امتداد حياتى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طب وأطباء فى حياتى طب وأطباء فى حياتى



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt