توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صورة على شاطئ أوستيا

  مصر اليوم -

صورة على شاطئ أوستيا

بقلم : جميل مطر

وقعت على هذه الصورة بينما كنت أبحث بين أوراق حياتى عن صور يستفيد بها المحرر المكلف بإعداد ونشر مخطوطة عن علاقتى بالصحافة يعدونها للنشر. لم تكن مهمتى فى البحث بسيطة فالصور بالمئات وربما بالآلاف مبعثرة فى أكوام من أوراق لا يربطها ببعضها عمر أو مرحلة أو مهنة بعينها. أعترف أننى لم أحسن التدرب على ترتيب أوراقى ناهيك عن توثيقها وحفظها رغم أننى بدأت حياتى العملية فى حوالى السابعة عشرة من عمرى «صبى مكتبة» حسب التوصيف الأمريكى لوظيفة هى فى الواقع أقل درجة من وظيفة المتدرب فى مهنة أمناء المكتبات العامة.
أما الصورة فهى لرجل أسمر حلوة تقاطيعه يجلس مع طفلين بديعين ككل الأطفال فى عمرهما فى أكثر الصور الفوتوغرافية. أحد الطفلين أسمر سمرة الرجل الجالس بينهما والطفل الآخر أبيض بلون من وقف ليصورهم وجميعهم بثياب الاستحمام ووراءهم البحر لا يشغلهم وجوده عن الاستمتاع بأجواء المصيف وصحبة المصيفين وتبادل إشارات التعاطف والمودة معهم.
• • •
بدا لى أثناء البحث أن صورا أخرى عديدة لا شك التقطتها وضاعت. الغريب فى الأمر أن عملية التصوير وقد مضى عليها ما يزيد على 63 عاما وبآلة تصوير تقليدية جعلت الصورة الصماء تتحول فى يدى وفى نظرى إلى ما يشبه فيلم سينمائى يحكى نتفا من قصص عديدة وفريدة بشخوصها ومواقعها. هذه النتف وربما بعض القصص كم تمنيت أن أحكيها على مشاهدى الصورة كما وقعت أو بتعديل بسيط إن دعت الضرورة أو إن فرض الغموض مشيئته علينا، كنا مؤلفين أم محررين أم حكائين.
• • •
الشاب فى الصورة سودانى العائلة يعمل بوزارة الخارجية سائقا وانتدب ليعمل بالسفارة المصرية فى روما. طلبت منه أن يخصص لى يوما من أيام إجازاته ليصحبنى وإبنى ومعنا إبنه إلى الشاطئ الأقرب إلى مدينة روما والمعروف بشاطئ «أوستيا» نسبة إلى الضاحية التى تحتضن هذا الشاطئ الرملى الرائع. كان الطقس بديعا على عكس الطقس الذى تركناه فى العاصمة.
• • •
لاحظت من اللحظة الأولى لنا على الشاطئ أن حركة غير عادية تحيط بموقعنا الذى اخترناه منعزلاً بعض الشىء. كثيرات من المصيفات تقدمن لتحيتنا دون معرفة مسبقة بى وأنا الحديث وصولا إلى إيطاليا. تعمدن التوقف أمام السائق والتحدث معه بالإيطالية التى لم أكن أمسكت بعد بمفاتيحها. لم أشأ التدخل كعادتى المفرغة من نعمة الفضول ولكنه تطوع بعد قليل بإبلاغى أنه بدأ مهمته، فى هذه المدينة الخالدة بحق، شابا أعزب ومنذ وصوله شاءت الظروف أن يتعرف على فتيات إيطاليات كثيرات.
• • •
قيل لى أن كبير السعاة، وجميعهم فى ذلك الوقت سودانيون بالنشأة أو نوبيون مصريون بالتنشئة، نصح السائق بعد عامين من العمل بالسفارة أن يطلب إجازة ويسافر إلى السودان وأن لا يعود إلا وقد عقد على إحدى قريباته. يعود وهى معه فالآخرون يتزوجون ويتركون زوجاتهم فى السودان أو فى بلاد النوبة. استفسرت من هذا الكبير وكان يحظى باحترامنا ليس فقط لأنه الأقدم فى السفارة والأكثر دراية بروما وطبائع أهلها وخفاياها ولكن أيضا لأنه كان بالنسبة لنا، نحن شباب الدبلوماسيين بالسفارة، الناصح الأمين فى بعض شئوننا ومشاكلنا. استفسرت فقال «نعم أعدته إلى العائلة ليتزوج حماية له وللسفارة من عواقب عزوبيته فى مدينة وفى طبقة وفى مرحلة اختصته جميعها وأشهرته بكونه الشاب المصرى الأسمر والأكثر وسامة وجاذبية لمعشر الجنس الآخر فى روما».
استطرد قائلا: «لم أتحرك إلا بعد أن أبلغتنى سكرتيرة السفارة ثم سكرتيرة السفير أن ممثلات من المشاهير الذين أفرزتهم المرحلة، مرحلة الحياة الحلوة، ممتزجة بالمعجزة الاقتصادية الإيطالية، يتصلن بإلحاح إذا هو تأخر فى الرد على مكالماتهن أو حاول التفلت من ملاحقاتهن. خفت المطاردات قليلا بعد زواجه أو أنه صار، وصارت المعجبات، أكثر حرصا».
يقول السائق الشاب أن المطاردات خفت، أما أنا، كاتب هذه السطور، فأقول إنه على امتداد ثلاث سنوات قضيتها فى روما بعد واقعة الرحلة مع السائق والطفلين فى شاطئ أوستيا لم يتوقف الأصدقاء الإيطاليون والزملاء الدبلوماسيون الأجانب عن السؤال عن «ش» السائق الأشهر فى مجتمع السلك الدبلوماسى إن غاب عنهم لتوعك أو زحمة عمل أو لسفر خارج المدينة.
• • •
كانت بالفعل السفارة الأكثر شعبية بين قريناتها من سفارات مصر بالعالم بأسره. ليس فيما أقر هنا مبالغة مقصودة أو تفخيم متعمد. صحيح كان «ش» سببا فى هذه الشهرة ولكنه لم يكن السبب الوحيد. كانت السفارة المصرية موضوع حسد عديد الدبلوماسيين الأجانب، لوقوعها فى قلب غابة هائلة الاتساع فى قلب روما وعلى الطريق الدولى الرئيس الذى كان يربط بين العاصمة والموانئ الجنوبية المطلة على البحر الأدرياتيكى منذ قدم التاريخ يحمل لها الملح ومنه اشتق الطريق اسم «سالاريا». السبب الثانى وراء شعبية سفارتنا أننا كنا نحتل قصر آخر ملوك أسرة سافويا التى حكمت إيطاليا حتى هزيمتها فى نهاية الحرب العالمية الثانية. هناك سبب ثالث ولا يقل أهمية، وهو الشعبية الفائقة التى كان يتمتع بها طباخ السفارة، على الأقل خلال مرحلة وجودنا فيها والمتوج فى أوساط الدبلوماسية ومواقع صنع القرار فى روما ملكا متوجا على عرش الطباخين فى روما حتى انتزعته منها سفارة مصر فى موسكو عندما تولى أمرها سفير قوى النفوذ منتهزا فرصة أتاحتها فترة انتقالية فى روما بين سفير نقل وسفير لم يصل.
• • •
فكرت فى كل هذه الأمور وأنا أجلس إلى مكتبى بضاحية الشيخ زايد أنظر إلى صورة فوتوغرافية من مقتنياتى ظهر فيها السائق «ش» المبرز فى وسامته وإجادته الإيطالية ودماثة أخلاقه ومعه طفلان، ابنه وابنى، وهم معى يستجمون على شاطئ قريب من روما قبل أكثر من ستين عاما.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صورة على شاطئ أوستيا صورة على شاطئ أوستيا



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt