توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صور لها حكايات.. بطاقة هوية لامتحان التوجيهية

  مصر اليوم -

صور لها حكايات بطاقة هوية لامتحان التوجيهية

بقلم : جميل مطر

 

الصورة لبطاقة هوية كانت تصدر للطالب المتقدم لامتحان التوجيهية، الامتحان الذى كانت تنظمه وتشرف عليه الدولة لطلاب السنة الخامسة فى المرحلة الثانوية. أذكر أنه كان لهذا الامتحان مكانته الأدبية الرفيعة وأهميته التعليمية إذ كان لبعض الناس وبخاصة فى معظم المدن عواصم المحافظات الريفية أو النائية بمثابة الترخيص للشاب بالتقدم لشغل وظائف حكومية وبحمل لقب أو صفة الأفندى.

• • •

وجدت صورة البطاقة بين صور غير قليلة ظهرت فيها منفردًا أو مع العائلة أو أصحاب الحى والمدرسة، هالنى فى البطاقة ما عكسته الصورة من براءة خجولة بدت على وجه صاحبها، أو لعلها المناسبة التى كانت تؤذن بنهاية مرحلة اختلطت فيها نهايات الطفولة بطلائع المراهقة. أظن أن دلائل غير قليلة فى واقع الحال أى فى خارج الصورة كانت تشير إلى أن النهايات رفضت أن تستسلم لمصيرها وأن الطلائع تأخرت فى فرض نفسها.

• • •

كنا فى المصيف، كعادة العائلة فى صيف كل عام. لم يختلف الأمر فى هذا الصيف عن الصيف الأسبق حينما خرج أبى وأخى الأكبر بحثًا عن الصبى بائع الصحف المنادى على ملحق جريدة البلاغ التى تعودت نشر نتيجة الامتحانين الأهم وهما «شهادة الثقافة» وشهادة «التوجيهية»، وكان امتحان شهادة الثقافة تجريه الدولة لطلاب السنة الرابعة الثانوية اختبارا لقدراتهم واستعدادهم للتخصص وترخيصًا لهم بالعمل فى وظائف معينة بالحكومة.

• • •

اجتمعت العائلة للاحتفال بنجاحى فور اطلاعنا على النتيجة فى ملحق «البلاغ». حضر الاجتماع أخى وكان وقتها ضابطًا بحريًا ملحقًا باليخت الملكى «المحروسة» مسئولاً عن حسابات اليخت، حضرته أيضا أمى وأختى وزوجها وكان وقتها أستاذًا لمادة الجغرافيا الاقتصادية بكلية التجارة بالجامعة، جامعة فؤاد الأول بالجيزة. رشحت نفسى فى مجلس العائلة للتقدم بطلب الالتحاق بالكلية البحرية التى تخرج قباطنة للسفن التجارية. وافق أخى ووافق أبى الذى لم يتعود أن يرفض لى طلبًا. مرة أخرى أكشف عن ميلى المتجدد والصريح للسفر، مرة أخرى تستخدم أمى حقها فى النقض. «ابنى ما يسافرش بعيد عنى، كفاية إن بنتى عاشت سنين فى بغداد». وبالفعل استقر الرأى على الالتحاق بكلية التجارة لدراسة العلوم السياسية، تفضيلى الثانى وعينى على العمل بوزارة الخارجية.

• • •

قضيت زمنًا محتفظًا ببطاقة هوية امتحان التوجيهية مطمئنا إلى أننى أحمل ما يثبت رسميا أننى تجاوزت مرحلة ودخلت مرحلة مختلفة. ظلت البطاقة تذكرنى بأيام كنت أظن أنها من أحلى أيام العمر. حتى شهور المذاكرة المكثفة الممهدة للامتحان كان لها مذاق محبب.  كنت أسهر ومعى كتابى أو كراستى فى بلكونة تطل على بلكونات عديدة كلها مضاءة بالليل وكلنا «كتلامذة شهادة أو غيرها» نعتقد أن هذا النوع من التضامن يشجعنا على السهر والتحصيل. الآن أنا متأكد من أن هذا السهر كان وراء تمتين العلاقة بيننا وبين أمهاتنا. أمى كانت تقضى ليالى المذاكرة وحتى نسقط إعياء وهى تعد لنا أكواب الشاى وغيره من المنبهات وأنواعًا شتى من المأكولات الخفيفة. كثيرا ما كانت تفاجئنى بطلب إغلاق «الشيش» بحجة منع دخول الحشرات الطائرة وفى الحقيقة كان وراء طلبها الحذر الدائم تجاه ابنة الجيران التى كانت «تذاكر« دائما فى بلكونة شقتها المطلة على بلكونتنا وتتبادل معى التشجيع بالإشارة فى وقت لم يكن التليفون يبيت خارج غرف نوم الآباء والأمهات.

• • •

كانت أيام امتحان التوجيهية مختلفة عن أيام امتحانات النقل العادية. كنا فى الأيام العادية نخصص منها ليلة لا تتغير للذهاب جماعة، أقصد شباب الحى، إلى السينما الصيفية. نذهب أحيانًا صبيانًا وبنات فى صحبة أمهاتنا. هناك نقضى ساعات ممتدة، فمثلاً فى شهر رمضان نكون فى السينما بعد الانتهاء من تناول الإفطار حتى قبل السحور بقليل. وفى غير شهور المذاكرة المكثفة كان مقررًا أن يخصص يوم الجمعة لزيارة بعض الأهل من كبار تجار سيدنا الحسين إن اصطحبنى الوالد أو زيارة البيت الكبير فى شارع مرجوش، أقصد أمير الجيوش بالجمالية، إن اصطحبتنى أمى.

• • •

أذكر بكل السرور ظروف تنشئتى السياسية. أذكر تدريبنا فى المدرسة الابتدائية ابتداء من شهر ديسمبر على إلقاء الأناشيد الوطنية منها أناشيد متخصصة فى حب الملك. نتدرب كمجموعة مختارة ساعة قبل بدء طابور المدرسة ثم بوتيرة مكثفة مع اقتراب شهر فبراير حين يقع عيد ميلاد جلالته ومرة أخرى مع شهر مايو حين يحل عيد جلوسه على عرش مصر. من ناحية أخرى لم يقصر الوالد. كان معتزًا، بل شديد الاعتزاز بأنه كان شاهدًا على بعض أحداث ثورة 1919 وفخورًا بصداقاته بسياسيين مشهورين. كان فخورا فى الوقت نفسه بصفات أو بأنواع من السلوكيات الاجتماعية اتصفت بها أو التزمتها فى المظهر وربما فى الجوهر وإن لم أمارسها لمجرد إرضائه ولكن لإعجابى بها وأنا أرى وأراقب التزامه بمثلها.

• • •

كانت الخديوى إسماعيل أكثر من مجرد مدرسة. كانت صرحًا لتعليم فنون الخطابة والمسرح والقيادة فضلاً عن أن وجودى فيها كان فى مرحلة سياسية شديدة التأثير والتفاعل. حفلت المدرسة بطلاب فى السنوات النهائية تخصصوا فى ممارسة الإثارة وإشعال فتيل المظاهرات. أذكر أنهم كانوا يتدربون بين الحصص وفى حضورنا نحن تلاميذ السنوات الدراسية المبكرة.  كنا ننبهر ونمشى وراءهم ونستجيب لأول إشارة تدعونا للخروج من فصولنا معبأين بالحماسة اللازمة والأصوات «المسرسعة» المدربة على اختراق جدران الفصول لتجتمع جماهير التلاميذ تطالب بفتح باب المدرسة للخروج إلى الشارع. كانت دوافع ومحركات التظاهر دائما متوافرة. كان الإنجليز ما يزالون فى معسكرات قصر النيل قبل أن ينتقلوا إلى معسكراتهم فى فايد وغيرها من معسكرات القناة. كان الفساد السياسى حديث كل الناس وعجز الأحزاب واضح وضوح الشمس. كانت قوات الأمن تستعمل فى التعامل مع التلاميذ أساليب قمعية عنيفة، علما بأن الغالبية العظمى من هؤلاء التلاميذ كانوا دون العشرين من العمر. كنا فخورين بأن مدرستنا تصنف أمنيا ضمن فئة المدارس الأكثر ثورية والأقوى تنظيما وكفاءة فى التحشيد، أقصد فئة السعيدية والإبراهيمية والتوفيقية والخديوية.

• • •

أظن أننى خرجت من المرحلة الثانوية جاهز التكوين سياسيا بفضل حكايات أب مسيس بطريقة بورجوازية العصر، وحيوية مجتمع يتحول متأثرا بمتغيرات ما بعد الحرب العالمية، وطبيعة مدرسة ثانوية «ملكية النشأة» راديكالية المشوار، وقدرات مدرسين اثنين أحدهما مصرى درس لى التاريخ حسب عقيدته السياسية والثانى مدرس مغربى مطرود من بلاده لسبب سياسى.

• • •

وضعت الهوية جانبًا إذ لمحت بطرف عينى صورة بين الصور الأقدم تاريخًا أثارت على الفور رغبة مشددة فى الإمساك بها وقراءة ما تقول.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صور لها حكايات بطاقة هوية لامتحان التوجيهية صور لها حكايات بطاقة هوية لامتحان التوجيهية



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt