توقيت القاهرة المحلي 16:41:04 آخر تحديث
  مصر اليوم -

متلازمة التعاسة.. بعيدًا عن السياسة

  مصر اليوم -

متلازمة التعاسة بعيدًا عن السياسة

بقلم - إميل أمين

بعيدًا عن التحليلات السياسيّة المغرقة في الواقع الدوليّ المرير، يَعِنّ لنا أن نفر قليلاً متطرّقين إلى قضية حياتية موصولة بمتلازمة التعاسة.
قبل بضع مئات من السنين، ولن نقول الآلاف، كانت الحياة أصعب ممّا هي عليه الآن بمراحل؛ إذ لم تكن هناك تكنولوجيا تُيَسِّر من أمور المعيشة اليوميّة، ولا مخترعات طِبّيّة تُخفّف من عناء الأجسام البشرية، وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك مسحة من السعادة والتوافق مع البيئة بشرًا وحجرًا أكثر ممّا هو حادث الآن.
أظهر تقرير لمركز "غالوب العالميّ" لاستطلاعات الرأي، في أكتوبر من عام 2022، أن مشاعر معدل التعاسة في العالم، يتصاعد بشكل مفزع، وقد عزا التقريرُ السببَ في تراكم مشاعر الغضب والحزن والقلق، عطفًا على الآلام الجسديّة التي يعاني منها الناس يوميًّا.

يعلق الرئيس التنفيذيّ للمؤسسة المعروفة بقياس الرأي العالميّ، بأن هذا المستوى الخطير من حالة التعاسة حول العالم، يزيد عامًا بعد الآخر، لا سِيّما منذ العام 2006، فقد عانى العالم بعد ذلك من أزمة مالية عالمية، ثم مجموعة من الحروب والمواجهات العسكرية حول العالم، وبعضها لا يزال مشتعلاً، ناهيك عن وباء كوفيد- 19، والذي تسَبَّبَ في زعزعة الأمان العالميّ.
يَعِنّ لنا أول الأمر التساؤل: "ما هي التعاسة؟"
باختصار غير مُخِلّ يمكننا تعريفها بأنها حالة شعورية مزاجية سلبية بالمطلق قد تسيطر على حياة الإنسان، فتحرمه من السعادة والمتعة وراحة البال، وتجعله أسيرًا للأحزان والقلق وفقدان الحماس والرغبة.
تبدو فكرة التعاسة في حدّ ذاتها مُدَمِّرةً للإنسان، ذلك أنّها تجعل منه "ريشة أو قَشّة" في مَهَبّ الريح، تَتَخبّطه الحياة يسارًا ويمينًا، وهو مستسلم لها، من دون أيّ مقاومة، كما أنها مؤذية لصحته الجسدية، ذلك أن سوء الحالة النفسية مصدرٌ مُؤكَّد للكثير من الأمراض الجسدية.
هل نحن أمام حالة من التناقض الجوهري بين تَحَسُّن إمكانيّات الحياة في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وبين زيادة التعاسة العالمية؟
يشير البروفيسور "ستيفن بيكر"، عالم النفس المعروف في جامعة هارڤارد، إلى أنه من المفترض أن يكون معدل السعادة هو الأعلى، وبخاصة في القرنَيْن الأخيرَيْن، لا سِيّما بعد تحَسُّن مستوى الحياة، ما أدّى إلى إطالة العمر، وانخفاض مُعدّلات الفقر، وتهيئة الكثير من سبل الراحة.
لكنّ المنتقدين له يعتبرون أن هذه وجهة نظر مُسطَّحة ومُبسَّطة بشكل مفرط؛ لأنها لا تأخذ في حساباتها الجوانب السلبية للحياة الحديثة من تزايد في حالة عدم المساوة في الثروة إلى التصاعد المستمر للعنف، دولاً وأفرادًا، إضافةً للاضطرابات السياسية المستمرة.
من التساؤلات العميقة التي تُطرَح في هذا الشأن: هل التعاسة أمر موروث، چينيّ، بيولوچيّ، أم أنها نتاج إحباطات الواقع المؤلمة؟
يكاد الجواب يمضي في المسارَيْن معًا، فعلى سبيل المثال يؤدّي الظلم المجتمعيّ والضغوطات الاقتصاديّة والاضطرابات الأمنيّة إلى تزايد الخوف، الباب الواسع للتعاسة.
من جانب آخر، صار العاملُ البيولوچيّ يلعب دورًا، لا سِيّما في حالة الأجيال الناشئة في بيئات منغلقة، ما يورث الانعزالية والانهزامية دفعةً واحدة، الأمر الذي يُعَمِّق السلوك التوَحُّديّ، والخوف من خوض غمار الحياة.
والشاهد أنه إذا كان الأصل في الحياة كما أشرنا هو البحث عن السعادة، فإن هناك مَن يُدمنون التعاسة، كنوع من أنواع الإدمانات المعاصرة، سِيّما بالنسبة لنوعية من الناس تحب المشاعر السلبية، وغالبًا ما تكون نتاج نوعيّة من التربية المُتَّسمة بالانضباط المفرط والتوقُّعات غير الواقعية، ما يتسبب في المساواة بين التعاسة والحب والنجاح، ومن هنا ينغمسون في البؤس، ويصل بهم الأمرُ في بعض الأحيان إلى أنهم قد يتفاخرون به.
وقد يغذي النضال المستمر في الحياة، مع الصدمات أو التجارب السلبية الأخرى، الرغبة اللاواعية في العودة باستمرار إلى دائرة التعاسة.
وقد يصل الواقع المَرَضيّ لبعض الأشخاص إلى تفضيل البقاء في عالم البؤس والتعاسة، خوفًا من تجريب الجديد المجهول المُسَمَّى السعادة، وهنا يصدق القول إن الذين اعتادوا على القلق، غالبًا ما يحسبون الأمان والطمأنينة فخًّا منصوبًا لهم للوقوع فيه.
كيف يمكن للمرء الفِكاكُ من حبال التعاسة الشديدة القسوة؟
تبدو البداية من عند تحديد هدف للحياة؛ فهذا يعطي للمسيرة والنضال اليوميَّيْن معنى وقيمة، ويُضفي على النضال طعمًا في الانتصار والانكسار معًا، ما يُشْعِر الفردَ بوجوده.
تبدو بعض الشعارات القديمة كنزًا حقيقيًّا، ومنها "القناعة كنز لا يخفى"، فهي من أهم مفاتيح السعادة الطاردة للتعاسة والبؤس، ولا تعني القناعة عدم الطموح، بل القناعة بما لديك، مع الرغبة والسعي الدائمَيْن نحو التحسين للأفضل.
يمكن للمرء أن يكافح التعاسة من خلال فكرة الاكتفاء بالذات، وهو مفهوم لا يفيد بمقاطعة الآخرين والعيش في جزيرة نائية، وإنما عدم تقييم النفس بناء على آراء أو رؤى الآخرين، وحتى لا تسمح لهم بإحباطك أو زعزعة ثقتك بنفسك.
لا يعرف البؤسُ حكمًا طريقَهُ للنفس الشغوف بتطوير ذاتها، بكلّ ما هو جديد ومفيد، مع الحرص على اكتساب قدرات جديدة، وتعلُّم مفاهيم عَصْرانِيّة، وممارسة تطوير الذات دون توَقُّف.
ويطول الحديث عن الميكانيزمات التي تساعد في مجابهة عالم التعاسة، وهنا يقابلنا سؤال مهمّ وحيويّ: "هل عالم الفكر والفلسفة تحديدًا في مقدمه، يُمَكِّننا من التغلب على التعاسة، والتفكير في الانتقال إلى معسكر السعداء؟
المؤكد أن هناك مدارس فلسفية عدة يمكننا أن نجد فيها نصائح مهمة في هذا السياق، ومنها "المدرسة الرُّواقيّة"، ومن فلاسفتها زينون، سينيكا، إبكتيتوس، أوريليوس، بويثس، وجميعهم يقطعون بأن "الواقع الذي تراه ليس هو من يتسَبَّبُ لك في التعاسة، وإنما التصورات التي تُكوِّنها عن هذا الواقع".
إن مصدر تعاستنا الأكبر بحسب الفلاسفة الرُّواقِيّين، هو رغباتنا التي لا تنتهي، وخاصة إذا كانت إمكاناتُنا وقدراتُنا عاجزةً عن تحقيقها ومسايرتها.

يخبرنا الفيلسوف الرواقيّ الشهير "سينيكا" (4 ق.م – 65م) أنّ النصيب الأكبر من تعاستنا يعود إلى آمالنا الكبيرة التي تنسينا عيش الحاضر، والاستمتاع بلحظاته.

يستبدل الرواقيّون الرغبةَ بالإرادة المحكمة بالعقل، والتي تُحَوِّل رغباتنا العمياء إلى حركات إراديّة نفكر فيها، وإلى آمال متواضعة محدودة بحدود استطاعتنا.

يعبر سينيكا عن هذا المعنى في كتابه الأشهر "رسالة إلى لوسيليوس" بقوله: "من فرط العيش في الماضي، أو المستقبل، تعوزنا الحياة، وقد تنقضي الحياة، ونحن ننتظر أن نعيش. فما أشد حماقة الإنسان الذي يتأهَّب دائمًا للحياة".
هل من خلاصة؟

قال أينشتاين ذات مرة: "إن الحياة الهانئة والمتواضعة تجلب السعادة، أكثر من السعي لتحقيق النجاح جنبًا إلى جنب مع القلق المستمرّ".

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

متلازمة التعاسة بعيدًا عن السياسة متلازمة التعاسة بعيدًا عن السياسة



GMT 21:30 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

بعد 200 يوم.. حرب بلا رؤية

GMT 00:03 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

عند الأفق المسدود فى غزة!

GMT 08:35 2024 الأحد ,21 إبريل / نيسان

من رأس البر!

GMT 00:03 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (٦)

GMT 00:03 2024 الأحد ,21 إبريل / نيسان

أمٌّ صنعت معجزة

أيقونة الجمال كارمن بصيبص تنضم لعائلة "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 16:30 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

نادين نجيم تكشف عن علامتها التجارية الخاصة
  مصر اليوم - نادين نجيم تكشف عن علامتها التجارية الخاصة

GMT 16:02 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها
  مصر اليوم - طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها

GMT 06:56 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

شهر مناسب لتحديد الأهداف والأولويات

GMT 14:29 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

مؤمن زكريا يتخلّف عن السفر مع بعثة الأهلي

GMT 05:35 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

شوبير يفجر مفاجأة حول انتقال رمضان صبحي إلى ليفربول

GMT 13:45 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

ماكينات الـ ATM التى تعمل بنظام ويندوز XP يمكن اختراقها بسهولة

GMT 02:15 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على سعر الدواجن في الأسواق المصرية الجمعة

GMT 17:17 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الوطني يصل السعودية لأداء مناسك العمرة

GMT 16:08 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتشاف تابوت يحوي مومياء تنتمي للعصر اليوناني الروماني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon