توقيت القاهرة المحلي 10:37:56 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رائحة الثوم المحروق

  مصر اليوم -

رائحة الثوم المحروق

بقلم - محمد المخزنجي

القصة وردت في الكتاب الرائع الضخم عن مرض السرطان «إمبراطور المآسي»، وتحكي أنه في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1943 أغار سرب من الطائرات الألمانية على مجموعة سفن أميركية راسية قرب مدينة باري جنوب إيطاليا، وكانت إحدى هذه السفن، وتدعى «جون هارفي»، محمّلةً بسبعين طنّاً من غاز الخردل دون معرفة طاقمها بذلك، ومع اشتعال السفينة اشتعلت حمولتها من الغاز السام، وبدأ الصيادون والقاطنون حول الميناء يعانون من رائحة الثوم المحروق التي تشبَّع بها الهواء، وتم انتشال البحارة الأميركيين من المياه وهم يعانون من رعب الألم وعيونهم مغلقة ومنتفخة. وخلال الأسبوع الأول توفي 83 رجلاً من أصل 617 ممن تم انتشالهم، وانتشر الغاز بسرعة فوق الميناء ومحيطه فتوفي ما يقارب ألف إنسان متسممين بهذا الغاز.

«في الواقع فجَّر الحلفاء أنفسهم» كان ذلك تعليقاً ذيَّل به الكاتب القصة، التي لم تنتهِ عند هذا الحد، بل اتخذت مساراً مُفارقاً تماماً يقول إن ما تفجَّر هو شيء آخر غير خداع الحروب وانحطاط أدواتها؛ فرغم أن هذه الحادثة كانت سبباً في سرعة إنشاء وحدة سرية لدراسة غازات الحروب سُمِّيت «وحدة الحرب الكيماوية» أبرمت عقوداً مع كثير من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، فإن العالِمَيْن اللذين كان من نصيبهما البحث المتعلق بغاز الخردل، وهما لويس جودمان وألفريد جيلمان، أخذا البحث إلى مسار مختلف تماماً عن غاية ما تم التعاقد معهما بشأنه.

لم يهتم العالمان كثيراً بالخواص المسببة للبثرات الجلدية لغاز الخردل وقدرته على إحراق الجلد والأغشية المخاطية لضحاياه، لأن ما شد انتباههما أكثر هو قدرة هذا الغاز على إهلاك خلايا الدم البيضاء وتدمير نخاع العظام، وهو ما أثبته تشريح جثث الجنود الأميركيين ضحايا الكارثة. وشغل تفكير جودمان وجيلمان سؤال مثير: هل يمكن استخدام هذا التأثير بجرعات ضئيلة دقيقة لاستهداف تكاثر الخلايا البيضاء السرطانية بشكل نوعي؟

وللإجابة عن السؤال، بدأ العالمان إجراء أبحاثهما على الحيوانات، ووجدا أن الحقن الوريدي للفئران والأرانب بالخردل جعل خلايا الدم البيضاء الطبيعية تختفي تقريباً من الدم والنخاع العظمي، دون أن تتسبب في ظهور البثرات البغيضة على الجلد، مما يعني الفصل بين تأثيري الخردل واستثمار أحدهما لغرض علاجي، وشجعهما ذلك على تركيز أبحاثهما على سرطان الغدد الليمفاوية لدى حيوانات التجارب في البداية، ثم على حالة بشرية متطوعة، وأدى حقن هذا العلاج الوريدي بالخردل إلى هجوع المرض بشكل مُبهِر واختفاء العقد الليمفاوية المتضخمة لدى الفئران والإنسان!

أعاد النجاح الأولي لغاز الخردل في قتل الخلايا السرطانية إحياء جدل قديم حول السموم بين الضر والنفع، كما أعاد لضمير الطب إعلاء غايات الإحياء على أحقاد الإماتة، ففي عام 1948 قام كونيليوس رودز رئيس وحدة الحرب الكيماوية في الجيش الأميركي بترك منصبه ليصبح مديراً لمستشفى ميموريال ومعهد الأبحاث الملحق به، مُركِّزاً على هدف محاربة السرطان كيماوياً. وتكللت خطوته بعد ذلك بالنجاح؛ ففي أوائل الخمسينات من القرن العشرين، نجح الطبيبان العالمان جوزيف بورشينال وماري لويس مورفي في علاج أطفال مصابين بمرض لوكيميا ليمفاوية من النوع الحاد والنادر بعقار بدأ تجاربه كونيليوس رودز نفسه، وفي مستشفى ميموريال ذاته.

حقق ذلك الدواء الجديد حينها هجوعاً سريعاً في المرض حيث تلاشت خلايا اللوكيميا من نخاع العظام، ومن الدم، في غضون أيام قليلة في أغلب الحالات. لكنه كان هجوعاً مؤقتاً وكأنه ومضة خير عابرة في عتمة شر عنيد، لكنها ومضة ظلت تتسع ويتكاثف ضوؤها يوماً بعد يوم حتى بلغت ما بلغته علاجات السرطان المتقدمة الآن، وهي قصة تقول لنا: هناك أشياء كثيرة تحتمل الوجهين، الخير والشر، الإحياء والإماتة، وما يُرجِّح فوز أيهما على الآخر هو الاختيار، فمن رائحة الثوم المحروق للخردل القاتل، هناك من تنسَّم أريج مادة شافية من بعض أذى إمبراطور المآسي، مرض السرطان.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رائحة الثوم المحروق رائحة الثوم المحروق



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:49 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك
  مصر اليوم - افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك

GMT 12:36 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها
  مصر اليوم - أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها

GMT 07:07 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

مندوب مصر يؤكد رفض بلاده العدوان على رفح
  مصر اليوم - مندوب مصر يؤكد رفض بلاده العدوان على رفح

GMT 09:58 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

تكريم نيللي كريم على جهودها لنشر الوعي الصحي
  مصر اليوم - تكريم نيللي كريم على جهودها لنشر الوعي الصحي

GMT 02:55 2019 الإثنين ,03 حزيران / يونيو

نيللي كريم تتحدث عن ظهورها في فيلم "كازابلانكا"

GMT 20:58 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

دي ليخت بين مطرقة عمالقة أوروبا وسندان برشلونة

GMT 18:43 2019 الثلاثاء ,12 شباط / فبراير

خبير أرصاد يُحذّر من استخدام الكمامات في العاصفة

GMT 12:42 2019 الأربعاء ,16 كانون الثاني / يناير

خطرٌ يُهدد حياتك بسبب النوم أكثر أو أقل من 8 ساعات يوميًا

GMT 02:16 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

بدران يؤكد أن الموز يُخفّف حموضة المعدة

GMT 12:55 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

مباراة توتنهام ضد تشيلسي تخطف الأضواء في الدوري الإنكليزي

GMT 03:34 2018 الأربعاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

مميزات استخدام ديكور الجدران الخرسانية في غرف النوم

GMT 21:44 2018 الأحد ,09 أيلول / سبتمبر

تفاصيل جديدة مثيرة في واقعة "مذبحة الشروق"

GMT 23:32 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

صخرة برشلونة مهددة بالغياب عن مواجهة فياريال

GMT 15:00 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

محمد الحنفى يؤكد انتظاره إدارة القمة منذ 3 سنوات

GMT 05:38 2018 الجمعة ,20 إبريل / نيسان

انطلاق أول رحلة لطائرة في الصيف "Stratolaunch"

GMT 10:06 2018 الجمعة ,13 إبريل / نيسان

هادجنز تتألق في تقديم مجموعة "سينفول كلورز"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon