توقيت القاهرة المحلي 21:00:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

محكمة الجنايات البيئية

  مصر اليوم -

محكمة الجنايات البيئية

بقلم - نجيب صعب

إذا كان البعض يعد المطالبة بإنشاء «محكمة جنائية للبيئة» مبالغة، فلا بد من مراجعة الحسابات بناءً على الوقائع، التي تُثبت أن الجرائم البيئية تتوسع بسرعة أكبر من الجرائم الأخرى، وتدر أرباحاً تصل إلى 300 مليار دولار سنوياً.
ما يعرفه الناس عن عمل منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) هو أنها تنسق التعاون بين الدول لتطبيق القانون، مما يمنع الإفلات من العقاب، ويجعل العالم أكثر أماناً. عدا عن ملاحقة الهاربين إلى دول أخرى من المتهمين بجرائم فردية، يركز «الإنتربول» اهتمامه على شبكات الإجرام الكبرى العابرة للحدود، خصوصاً في مجالات الإرهاب وتهريب المخدرات وتبييض الأموال وتزوير العملات والاحتيال ومكافحة الجريمة المنظمة عبر الإنترنت.
الجرائم البيئية هي الإضافة الأخيرة الكبرى إلى مهمات «الإنتربول»، ليس فقط لأنها تعرض الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي والصحة العامة للخطر، بل لأنها تتعدى هذا إلى تهديد الأمن الدولي. وهي ترتبط بأنواع أخرى من الجرائم التقليدية، عن طريق تمويل النشاطات الإرهابية والإجرامية والفساد. وتزدهر في مناطق النزاعات المسلحة، حيث سلطة الدولة المركزية ضعيفة. وقد تحولت بعض مناطق الحروب إلى مكبات مفتوحة للنفايات النووية والكيميائية الخطرة، كما حصل في بلدان عربية غير مستقرة.
الجرائم البيئية هي النشاطات غير المشروعة التي تمس بالبيئة، وتعود بالنفع على أفراد أو مجموعات. وهي تشمل التجارة بالأنواع البرية المحمية من نبات وحيوان، والاستغلال المفرط للغابات، والصيد غير المشروع في البحار والمحيطات، والمتاجرة بالنفايات السامة والمواد الخطرة، واستنزاف الموارد الطبيعية بما يفوق قدرتها على التجدد، وتلويث الهواء والتراب والمياه. ومع أن الجرائم البيئية منتشرة في جميع أنحاء العالم، إلا أن بلداناً قليلة أدخلتها بوضوح في التشريعات الوطنية، وحددت عقوبات رادعة لها، مما يسهل الإفلات من المحاسبة.
حقق الاتحاد الأوروبي تقدماً كبيراً خلال العقدين الأخيرين في إدخال كثير من المخالفات البيئية ضمن الجرائم الجنائية التي يعاقب عليها القانون. وترافق هذا مع تعزيز التعاون بين الجمارك في مراقبة حركة الشحن مع البلدان خارج الاتحاد الأوروبي وداخل دول الاتحاد، مع عدم حصر الاهتمام بالممنوعات التقليدية مثل المخدرات.
وقد يكون التقرير البيئي الذي صدر أخيراً عن «يوروبول»، الوكالة الأوروبية الإقليمية الموازية لمنظمة «الإنتربول» العالمية، دليلاً على تعاظم اهتمام دول الاتحاد الأوروبي بالجرائم البيئية. فالتقرير، الذي يحمل عنوان «الجريمة البيئية في عصر التغير المناخي»، يعرض لأخطار الجرائم البيئية على أوروبا، وأثرها المباشر على الأوضاع البيئية، كما على الالتزامات المناخية البعيدة المدى. وقد وجد أن النشاطات البيئية غير المشروعة أصبحت تستقطب استثمارات متزايدة من شبكات إجرامية تقليدية، تسعى إلى تدوير أموالها الوسخة في مجالات يصعب كشفها، تحت غطاء نشاطات صناعية وتجارية شرعية. ومن هذا القبيل أن تتولى نقل النفايات الخطرة والسامة شركات تعمل تحت عنوان «إدارة النفايات»، فتدفنها في بلدان تفتقر إلى قوانين تمنع هذه الممارسات ويحكمها الفساد. ومنه أن تعمد شركات للصيد البحري إلى استخدام أساطيلها لاستنزاف الثروة السمكية بما يفوق أضعاف الكميات المسموح بها. ومنه أيضاً إقدام شركات الأخشاب على قطع عشوائي لأنواع محمية، مما يتسبب بتدمير الغابات. وتحرك حركة التجارة الإجرامية هذه شركات نقل بضائع دولية تحمل تراخيص قانونية. ويُذكر أن تجاراً لبنانيين، بتغطية من مسؤولين حكوميين، حاولوا عام 2016 تصدير أطنان من النفايات إلى وجهات غير معلومة، عبر شركات أوروبية تبين أنها وهمية.
ومع ازدياد حجم الجرائم البيئية أضعافاً، يبقى من الصعب في كثير من الأحيان ربطها بالجريمة المنظمة. وهذا يعود أساساً إلى التفاوت في الأنظمة القضائية بين الدول، وضعف خطر الانكشاف مقارنة بالجرائم التقليدية، وتدني العقوبات المفروضة عليها، رغم أرباحها الفاحشة. هذا كله يجعلها مغرية للشبكات الإجرامية. لكن الأخطار المحدقة للتغير المناخي وضعت الجرائم البيئية أخيراً في سلم الأولويات، لأنها قد تتسبب بتدهور مناخي وبيئي يفوق النتائج المرجوة من تدابير خفض انبعاثات الكربون للحد من الاحتباس الحراري. ومن هنا تعاظم الاهتمام بالمسألة، كما يُظهر تقرير «اليوروبول».
أهم استنتاج توصل إليه التقرير الأوروبي أن معظم الجرائم البيئية تقوم تحت غطاء مشاريع شرعية، منها تشغيل منشآت مرخصة لإنتاج وتخزين مواد ممنوعة لا يشملها الترخيص. أما الشركات المرخصة بتصدير النفايات البلاستيكية من أوروبا، فتتواطأ مع الشركات في الدول الأخرى لتخفيض التكاليف ومضاعفة الأرباح، عن طريق عدم الالتزام بالشروط. فقد تبين أن ثلث كمية نفايات البلاستيك المصدرة إلى دول آسيوية للمعالجة وإعادة التدوير تنتهي في المكبات العشوائية والبحار. وعدا عن تصدير البلاستيك المستعمل إلى آسيا، تنقل شركات «إدارة» النفايات فضلات خطرة من غرب أوروبا إلى شرقها بهدف المعالجة، وفي أحيان كثيرة تخلطها بنفايات محظورة لمراكمة الأرباح. ومن النفايات المنقولة تحت غطاء التبادل التجاري السفن القديمة، التي تعمد بعض الشركات إلى إغراقها في المياه الدولية بعد تقاضي ثمن معالجتها وتدوير فضلاتها. ويشمل هذا «التبادل» النفايات الإلكترونية، التي يتسبب تفكيكها وتذويبها، لاستخراج المواد الثمينة منها، بتلويث خطر في غياب معايير صارمة.
ومن أحدث المجالات التي تحاول شبكات الإجرام البيئي التسرب إليها تلك التي تقع تحت تصنيفات مثل «الأبنية الخضراء» و«صناديق الاستثمارات المستدامة». فمن خلال هذه العناوين، يحاول هؤلاء استقطاب مستثمرين لِضَخ الأموال في مشاريع ذات عنوان بيئي، مثل الطاقة المتجددة والتطوير العقاري الأخضر، بينما قد تكون في حالات كثيرة نشاطات ملوثة تتستر بالبيئة للحصول على دعم حكومي واستقطاب الجمهور المهتم بالبيئة. وتساعد في تمرير هذه المشاريع الشروط الفضفاضة للحصول على شهادات الأداء البيئي، مثل تصنيف كفاءة الطاقة أو معايير المواد العازلة في البناء، وهي شروط غامضة تتيح التلاعب. ومن أبواب الفساد أيضاً الثغرات التي تسمح بسوء استخدام تجارة الانبعاثات الكربونية.
تحتل الجرائم البيئية اليوم المركز الرابع بين أنواع الجرائم في العالم، وهي تتقاطع مع شبكات الإجرام المنظمة التقليدية وتقدم غطاءً لها. وقد كشف تقرير عن عملية سرية للشرطة أنه خلال اجتماع واحد بحثت عصابة للإجرام المنظم عمليات تتعلق بتهريب المخدرات، وتبييض الأموال، وتهريب حيوانات مهددة بالانقراض، وشحن أخشاب ممنوع قطعها، ونقل نفايات خطرة بأوراق مزورة.
لا يمكن مواجهة شبكات الإجرام البيئي المنظمة إلا عبر شبكات قانونية وأمنية قوية بصلاحيات واضحة.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محكمة الجنايات البيئية محكمة الجنايات البيئية



GMT 20:42 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

المخادعون

GMT 00:01 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

الانتقام الإيرانى كثيف وناعم ومثير

GMT 21:30 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

المعايير الأمريكية بين غزة والسودان

GMT 00:01 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

الصواريخ بين الأدب والسياسة!

GMT 21:13 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

تجديد النخبة

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:49 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
  مصر اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 19:13 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

دينا فؤاد تعلن شرطها للعودة إلى السينما
  مصر اليوم - دينا فؤاد تعلن شرطها للعودة إلى السينما

GMT 16:13 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

"فولكس واغن" أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية
  مصر اليوم - فولكس واغن أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية

GMT 19:04 2022 الخميس ,03 آذار/ مارس

تأهيل الحكومة الرقمية من أجل التنمية

GMT 11:04 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

"فورد" تستدعى 5234 سيارة فى الصين لمخاطر تتعلق بالسلامة

GMT 03:05 2024 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

5 ملايين زائر لمعرض القاهرة الدولي للكتاب

GMT 05:32 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دول غرب أفريقيا تتخذ إجراءات جديدة لإنقاذ الغابات

GMT 18:11 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

عودة ميسي ووصول لاعبو البارسا لمواجهة رايو فاليكانو الليلة

GMT 04:18 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

"بي بي" تؤكد بدء إنتاج 50 مليون قدم من الغاز في مصر

GMT 16:41 2018 الخميس ,26 تموز / يوليو

كشف ملابسات مقتل سيدة بمنزلها ذبحًا في دمياط

GMT 08:52 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

5 أطعمة مهمة تساعدك في علاج الأرق المزعج

GMT 09:17 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

التناقض عنوان المجموعة الشتوية الجديدة لزياد نكد

GMT 11:42 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

عطر guess seducriv I am yours لإطلالة غامضة ومغرية

GMT 23:10 2016 الأربعاء ,01 حزيران / يونيو

مطار سوهاج يُجري تجربة طواريء لطائرة منكوبة

GMT 08:59 2017 الأربعاء ,05 تموز / يوليو

عائشة بن أحمد تُشعل مواقع التواصل بإطلالة رائعة

GMT 14:00 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

أمسيات دينية في مساجد الإسكندرية عن أهمية الثقافة في التربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon