توقيت القاهرة المحلي 22:45:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عدالة توزيع الدخول بين تحديات قديمة وفرص جديدة

  مصر اليوم -

عدالة توزيع الدخول بين تحديات قديمة وفرص جديدة

بقلم: د. محمود محيي الدين

أفصحت دراسات اقتصادية جديدة عن أن إقليم الشرق الأوسط، الذي يضم البلدان العربية، هو أكثر الأقاليم من ناحية عدم العدالة في توزيع الدخل على مستوى العالم. ففي هذا الإقليم يستحوذ أغنى 10% من سكانه على 64% من الدخل، مقارنةً بالأحوال في أوروبا التي يصل نصيب الشريحة نفسها فيها إلى 37%، وفي الولايات المتحدة نصل النسبة إلى 47%، وفي البرازيل 55%، وجنوب أفريقيا 62%. وتُظهر هذه التقديرات، التي قام بها الاقتصاديون فاكوندو ألفاريدو وليديا أسود وتوماس بيكيتي، أن تركز الدخول في الشرائح العليا يأتي على حساب الطبقة الوسطى فيضيّق عليها مصادر العيش، كما يدفع بالشرائح الأدنى دخلاً إلى مصائد الفقر.
وتختلف جذور اللامساواة بين مجموعات الدول المذكورة، ففي حين ترجع أسباب عدم العدالة في جنوب أفريقيا إلى نظام الفصل العنصري البغيض الذي ساد البلاد حتى أوائل التسعينات من القرن الماضي الذي منح 10% من البيض مزايا جعلتهم في قمة هرم الدخل، فإن عدم العدالة مرجعها في البرازيل إلى عهود طويلة من قهر ما يقترب من ثلث عدد السكان بنظم العبودية، التي استمرت فيها حتى صدرت قوانين منع الرق في عام 1887، بينما تمتد جذور عدم العدالة في توزيع الدخول في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط إلى الاعتماد على المصادر الريعية ثم تحويلها إلى أصول مالية وعقارية. وفي جميع الأحوال يرسخ قصور السياسات المالية العامة والإجراءات الضريبية حالات عدم العدالة في توزيع الدخل والثروة.
تتزايد احتمالات حالات عدم العدالة في توزيع الدخل والثروة مع تضافر عوامل مختلفة مثل النشأة والموقع الجغرافي والنوع الاجتماعي والعرق، والتي قد تقلل من فرص الارتقاء وتحسن الدخل من خلال العمل. وقد أورد جارد دياموند في كتابه الأخير تحت عنوان «اضطراب»، أن الحراك الاقتصادي الاجتماعي في بعض الدول مثل الولايات المتحدة محدود، فأكثر من 40% من الذين يولدون لوالدين من الفقراء يظلون فقراء أيضاً في جيلهم عندما يكبرون عمراً، وأن 8% منهم فقط قد يصلون إلى الشرائح الأغنى دخلاً، أما في الدول الاسكندنافية فإن فرص استمرار البقاء في دائرة الفقر لأبناء الفقراء أقل، إذ تبلغ 26% فقط بينما يرتقي أغلبهم في سلم التطور الاقتصادي والاجتماعي بفضل ما تتيحه لهم فرص التعلم والعمل وغيرها من ممكنات التحسن.
وهناك ظاهرتان متزامنتان شهدتهما العقود الثلاثة الأخيرة، الأولى تتمثل في انخفاض اللامساواة في الدخل بين الدول منذ عام 1990 بما عكس تراجع نسبة الفقر المدقع وكذلك ارتفاع معدلات نمو الاقتصادات النامية عن نظيراتها في الدول المتقدمة. أما الظاهرة الثانية فهي ارتفاع حدة عدم العدالة في توزيع الدخول داخل الدول على نحو غير مسبوق خلال الفترة نفسها. ولا يقتصر التباين على الدخول المتحصلة أو الثروات المكتسبة، ولكنه يمتد إلى خلل في مدى عدالة الفرص في الحصول على غذاء مناسب وخدمات الصحة والتعليم والأراضي وغيرها من أصول وموارد لازمة للعيش الكريم.
ولا ينبغي النظر إلى عدم العدالة في توزيع الدخول على أنها من الثوابت الجامدة العصية على التغيير، فلها من إجراءات السياسات وأعمال المؤسسات ما يحسن من أوضاعها ويعزز فرص عموم الناس في الارتقاء بأحوالهم من خلال العمل. ولتفادي موبقات عدم العدالة في توزيع الدخل والثروة وآثارها السلبية على الاستقرار الاجتماعي والسياسي وما تفوّته على الاقتصاد من منافع، فعلى الحكومات أن تتبنى سياسات متكاملة للارتقاء بالعدالة في توزيع الدخول.
وفي هذا الصدد يجب ألا تقتصر هذه السياسات على توزيع المنح والهبات، بل عليها أن تعمل على خمسة محاور:
أولها يتعامل مع جذور اللامساواة من خلال قوانين وسياسات تطبَّق لإزالة العوائق كافة أمام الحصول على فرص عادلة بدايةً من الطفولة المبكرة بتغذية مناسبة وتعليم لائق ورعاية صحية متميزة، بما يضمن أن ما عاناه جيل الآباء من شظف العيش والفقر لا يرثه الأبناء.
ثانياً، ستحتاج هذه السياسات إلى تمويل يعتمد على نظام ضريبي كفء لتعبئة الموارد ويسهم في إعادة توزيع الدخول ويساند نظام الضمان الاجتماعي، وإلى نظام فعال للإنفاق العام يحسن استهداف المستحقين. ولعل منهج توطين التنمية يعين في فاعلية تحقيق استهداف المستحقين من خلال مشاركة المجتمع المحلي في تحديد الاحتياجات وصياغة الأولويات وتنفيذها بما يحقق نفعاً ملموساً لعموم الناس.
ثالثاً، تطوير قواعد البيانات والارتقاء بنظم تحليلها لضمان فاعلية السياسات وعدم إهدار الموارد والعمل على كفاءة تخصيصها وتحديد المستحقين الأَولى بالرعاية والمساندة. وتحتاج سياسات الدخول وتحقيق العدالة في توزيعها إلى تطوير مسوح وبحوث ميزانية الأسرة التي تحتاج إلى تمويل لإجرائها بشكل دوري وتحليل بياناتها بالتكامل مع مصادر المعلومات الأخرى كالبيانات الإدارية والضريبية للحصول على صورة أكثر اكتمالاً عن المجتمع الاقتصادي.
رابعاً، الاستعداد لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة وقوامها أسس الاقتصاد الرقمي وتطور شبكات المعلومات وإتقان علوم الذكاء الاصطناعي، فالتهاون في الاستثمار في هذه المجالات من شأنه أن يُحدث فجوة في فرص التقدم بين الدول وتبايناً في مقومات المنافسة واكتساب الدخول بين الناس في الدولة الواحدة.
خامساً، تنفيذ استراتيجية للنمو الاقتصادي الشامل للجميع باعتبارها السبيل لتحقيق فرص زيادة الدخول مقابل إنتاجية تحققها قطاعات الاقتصاد ومشروعاته، وأن المنافسة بين الاستثمارات المولِّدة لفرص العمل خصوصاً في مراكز تركُّز السكان من شأنها تحقيق التقارب في مستويات الدخول وفقاً لمعايير الإنتاجية والكفاءة. كما أنه ليس من سبيل للحاق الدول الأقل دخلاً بتلك الأعلى منها دخلاً من دون زيادة معدلات النمو الاقتصادي باطراد لا انقطاع في مساره.
وحتى تنجح المساعي المنشودة في إطار المحاور الخمسة المذكورة تنبغي مراجعة دور الدولة والقطاع الخاص فيما يتعلق بالشأن الاجتماعي، فقد أُممِّت خطأً أنشطة كان الأَولى بها القطاع الخاص باعتبارات تكوينه ومنهاج عمله وسعيه للربح، وخُصخصت خطأً أنشطة كان الأَولى بها القطاع الحكومي باعتبارات فلسفة وجوده ومقاصد أنشطته المحققة للنفع العام. وهذا لا يقلل من شأن أعمال خدمية وأنشطة خيرية يمكن أن يقوم بها القطاع الخاص والموسرون، والتي يجب أن تدعم وتحفز لمساندة تطور المجتمع والإسهام في الارتقاء بمجالات كالتعليم والرعاية الصحية ومكافحة الفقر ورعاية ذوي الحاجة من خلال نظم الوقف والتبرع والصدقات والزكاة. وقد كان في سابقات عهد الموسرين العرب، وفي بعض حاضرهم، مَن أسهم في تأسيس المدارس والمبرّات وراعى طلاب العلم وأنشأ الأوقاف للمقاصد الكريمة. وهي أنماط من السلوك والأعمال تبناها كثير من أغنياء الغرب فأنشأوا بها مؤسسات طوّرت التعليم ونظم الرعاية الصحية ومكافحة الفقر والجهل والمرض في بلدانهم وغيرها، وأسهمت في تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عدالة توزيع الدخول بين تحديات قديمة وفرص جديدة عدالة توزيع الدخول بين تحديات قديمة وفرص جديدة



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 20:02 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

أحمد السقا أولي مفاجأت فيلم "عصابة المكس"
  مصر اليوم - أحمد السقا أولي مفاجأت فيلم عصابة المكس

GMT 20:53 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

أجاج يؤكد أن السيارات الكهربائية ستتفوق على فورمولا 1

GMT 02:41 2016 الأحد ,15 أيار / مايو

الألوان في الديكور

GMT 15:53 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

إقبال على مشاهدة فيلم "Underwater" فى دور العرض المصرية

GMT 15:43 2019 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

مجلس المصري يغري لاعبيه لتحقيق الفوز على الأهلي

GMT 14:25 2019 الخميس ,03 كانون الثاني / يناير

دراسة جديدة تُوصي بالنوم للتخلّص مِن الدهون الزائدة

GMT 17:44 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

ريال مدريد يستغل الخلاف بين نجمي باريس سان جيرمان

GMT 03:56 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

عبدالله الشمسي يبتكر تطبيقًا طبيًا لمساعدة المرضى

GMT 14:00 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

أودي تطرح أفخم سياراتها بمظهر أنيق وعصري

GMT 17:49 2017 السبت ,02 كانون الأول / ديسمبر

مدير المنتخب الوطني إيهاب لهيطة يؤجل عودته من روسيا

GMT 19:33 2020 السبت ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل مغني الراب الأمريكي كينج فون في إطلاق نار بأتلانتا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon