توقيت القاهرة المحلي 17:14:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» (4)

  مصر اليوم -

عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» 4

بقلم د. محمود محيي الدين

رغم تراجع معدلات التضخم العالمية هذا العام إلى أقل من 7 في المائة، بعدما اقتربت من 9 في المائة العام الماضي، وتوقع انخفاضها إلى أقل من 6 في المائة في العام المقبل، فإنه من غير المرجح أن تتراجع أسعار الفائدة لمستوياتها التي اعتاد صناع القرار وعموم الناس عليها قبل موجة ارتفاعاتها الأخيرة. ستنخفض فعلاً أسعار الفائدة خشية الوقوع في حلقة من الركود أفلتت منه الاقتصادات الكبرى هذا العام بزيادة معدلات النمو عن توقعاتها، ولكنها ستستمر مرتفعة لفترة طويلة بعد ما شهده الاقتصاد الأميركي والأوروبي من معدلات تضخم أرجعت الذاكرة إلى موجات انفلات الأسعار منذ 40 سنة مضت، وعلى البلدان النامية أن تتعايش مع حالة لأسعار الفائدة ومن ثم تكلفة تمويل «أعلى لفترة أطول»، بعدما انخرط كثير منها في التوسع في الاقتراض الدولي من دون حسبان لمخاطر صدمات تغير الفائدة وأسعار الصرف عند اقتراضها بالعملة الصعبة.

فوفقاً لـ«أنكتاد» زادت الديون العامة من 35 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان النامية في عام 2010 حتى تجاوزت 60 في المائة في عام 2021، كما ارتفعت الديون الخارجية من أقل من 20 في المائة إلى نحو 30 في المائة خلال الفترة ذاتها. وجعل ذلك الدول المستدينة عرضة لمخاطر تقلبات أسعار الفائدة والتغيرات المفاجئة في أسعار صرف العملات. ثم جاءت ردود أفعال البلدان المتقدمة في تعاملها مع الجائحة، بين عامي 2020 و2022، بين تيسير نقدي مفرط وكأنها تسقط بنكنوت المطابع المتدفق من مروحيات دون حساب، ثم ترددت بنوكها المركزية في احتواء آثارها التضخمية بعد حيرة منها في طبيعة التضخم المتزايد: هل هو مؤقت زائل بطبيعته، أم يحتاج إلى تدخل صارم؟ فلما تبين لها أن التضخم من النوع الأخير سارعت بعد إبطاء مكلف فرفعت أسعار الفائدة في وثبات متتالية. فارتبكت بذلك السياسات النقدية في بلدان نامية بعد فترة اعترتها هي أيضاً من الالتباس والشك حول توجهات أسعار الفائدة العالمية والصرف.

وألقت التغيرات المفاجئة في الاقتصاد الدولي بأعبائها على أسواق المال والاستثمار؛ فأمست التدفقات المالية إلى الدول النامية والأسواق الناشئة بين تقلب وتراجع، ومد وجزر سريعين للأموال الساخنة والهائمة. وتعقدت عملية إدارة الديون وتمويل برامج النمو والتنمية. فكان من الواجب أن تتخذ الإدارة الاقتصادية التدابير اللازمة للتوقي من مخاطر الصدمات القصيرة الأجل، وبخاصة في الدول ذات صافي أصول أجنبية منخفض، والتي تحسب ببساطة بخصم الديون الخارجية من رصيد الاحتياطي من النقد الأجنبي.

ونشارك رأي الاقتصادي المرموق بجامعة هارفارد، كينيث روغوف، المؤلف المشارك للمرجع المهم عن تاريخ الديون في 8 قرون، أن عوامل الإبقاء على الارتفاع النسبي لأسعار الفائدة العالمية أكبر من تخفيضه للمستويات السابقة التي اعتادها العالم لسنوات في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008. وحتى بعد تخفيضات قد تطرأ على أسعار الفائدة استجابة لمخاوف الركود في الاقتصادات الكبرى أو لضغوط سياسية مصاحبة.

ومن العوامل المسببة للارتفاع: تضخم الديون، وارتفاع نفقات التسليح والدفاع وانعكاسات بعض سياسات التحول الأخضر، وسياسات الدعم، وانعكاسات ذلك كله على الموازنات العامة. وسيكون لذلك تأثيراته على الشركات المستدينة في الدول المتقدمة وقطاعاتها العقارية التجارية التي ما زالت تراهن على انفراجة قد لا تتحقق في أعقاب عام 2025.

ولهذا كله تداعيات على السياسات الاقتصادية في عالم الجنوب، بعدما اشتعل التضخم في كثير من أقطاره، ومنها من تراود صناع سياساته احتمالات العودة المبكرة للاقتراض الرخيص، وأن يسترد ما تطاير وتبخر من أموال هائمة وساخنة التي كانوا يعدونها خطأ من جملة الاستثمارات، وهي في حقيقتها ديون قصيرة الأجل، فيثبِّتون بها أسعار الصرف افتعالاً، ويتباهون باستقدامها كأنها من إمارات النجاح، حتى أتت ساعات الحساب العسير بتداعيات على الاستقرار الاقتصادي لا تلتئم إلا بعد إصلاحات مكلفة.

ويجدر بصناع القرار في هذه البلدان أن يستأنسوا بأسس السياسة العامة للاقتصادي الهولندي جان تينبرغن، وهو من أوائل الحاصلين على «جائزة نوبل»؛ حيث فرَّق في كتابه الشهير الصادر عام 1952 عن السياسة الاقتصادية، بين أهدافها وإجراءاتها. ووفقاً لهذه الأسس فهناك فضل في استهداف التضخم على استهداف سعر الصرف. وقد تحقق لكثير من البلدان النامية والمتقدمة مكاسب في الاستقرار النقدي، ودفع الاستثمار ومن ثم النمو الاقتصادي المطرد، شرحها كاتب هذه السطور في 2004 كإطار للسياسة النقدية، يتطلب فيما يتطلبه تنسيقاً مؤسسياً بين السياسات المالية العامة والنقدية، واستقلالاً للبنوك المركزية، وإحكاماً في زيادة عرض النقود، وكفاءة في استخدام الإجراءات النقدية، بخاصة أسعار الفائدة، وانضباطاً في سوق النقد الأجنبي، وتواصلاً مستمراً ومتقناً مع أطراف الاقتصاد، وتوضيحاً لمستجداته مع عموم الناس. فإذا ما اكتسب إطار استهداف التضخم مصداقيته تتحقق أهداف الاستقرار النقدي، وتبدأ الاستثمارات والتحويلات في التدفق، ويتيسر للمنتجين والمصدرين والمستوردين تسعير منتجاتهم وإدارة أنشطتهم ومخاطرها وعوائدها بكفاءة، بتجنيبهم التعرض لظروف اللايقين والغموض التي تقوض الثقة.

ومع ازدياد تقلبات أسعار الصرف العالمية، واتجاه أسعار الفائدة للاستمرار في مستويات مرتفعة، تزداد الحاجة إلى تفعيل إطار استهداف التضخم الذي تبنته بلدان متقدمة ونامية مختلفة، فحقق لها -بعد عمل شاق سنوضحه في مقال قادم- ما تطلعت إليه من استقرار في عالم تتنازعه مسببات متنوعة للاضطرابات والأزمات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» 4 عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» 4



GMT 02:56 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

«حماس» 67

GMT 02:50 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

نهاية مقولة «امسك فلول»

GMT 02:30 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الإعلام البديل والحرب الثقافية

GMT 02:26 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

«الدارك ويب» ودارك غيب!

GMT 02:11 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الاستثمار البيئي في الفقراء

GMT 16:02 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها
  مصر اليوم - طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها

GMT 13:43 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

يتيح أمامك هذا اليوم فرصاً مهنية جديدة

GMT 10:39 2022 الثلاثاء ,19 تموز / يوليو

الأهلي يسوّق بدر بانون في الخليج والرجاء يريده

GMT 11:36 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

النجم الألماني مسعود أوزيل يختار الأفضل بين ميسي ورونالدو

GMT 04:38 2020 الثلاثاء ,25 آب / أغسطس

دنيا سمير غانم تتألق رفقة زوجها

GMT 20:38 2020 الأربعاء ,22 تموز / يوليو

كوريا الجنوبية تسجل 63 إصابة جديدة بكورونا

GMT 13:16 2019 الخميس ,17 كانون الثاني / يناير

طريقة سهلة لتحضير الهريسة الحلوة

GMT 11:35 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إنتاج الجيل الثالث من المحفظة الذكية المضادة للسرقة

GMT 21:19 2017 الأحد ,04 حزيران / يونيو

زهير مراد يعلن عن فساتين زفاف لربيع وصيف 2017

GMT 15:06 2013 الإثنين ,20 أيار / مايو

خان الخليلي وجهة سياحية مصرية لا تُعوض

GMT 15:15 2021 الأربعاء ,21 تموز / يوليو

حمادة هلال يتصدر تريند يوتيوب بكليب «أم أحمد»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon