توقيت القاهرة المحلي 08:24:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الأزمة السورية وبناء شخصية وطنية

  مصر اليوم -

الأزمة السورية وبناء شخصية وطنية

بقلم : يوسف الديني

شهدت سوريا خلال الأيام الفائتة واحدة من أعنف الأزمات السياسية منذ سقوط نظام الأسد الوحشي الذي لا يمكن أن تكون المقارنة معه ذريعة لتبرير ما حدث.

العنف الذي جرى والبيئة التي أخرجت الفلول لكي تحرّك الأحداث، وفق ترقب لمشاريع تقويضية منذ اللحظة الأولى للدولة السورية الجديدة؛ هو نتيجة وليس سبباً، حيث تحوّلت الاحتجاجات الشعبية إلى صراع مسلح أدى إلى تدخلات إقليمية ودولية، وزيادة حدة الاستقطاب الطائفي والاجتماعي. ومن بين أبرز المشاهد المأساوية التي شهدتها البلاد، أحداث العنف في الساحل السوري، التي طرحت تحديات كبيرة أمام السلطة الجديدة في دمشق، حول كيفية التعامل مع الماضي، وإعادة بناء الدولة على أسس وطنية جامعة.

لقد أثبتت التجربة التاريخية لأكثر من أربعين حرباً أهلية في العالم أنه لا يمكن تحقيق سلم أهلي حقيقي من دون إشراك جميع المكونات في مشروع الدولة. وقد أشار الفيلسوف السياسي الأميركي المولود في بروسيا، فرنسيس ليبر، إلى أن «غياب الشخصية الوطنية الجامعة يؤدي إلى ضعف استمرارية المجتمع السياسي؛ مما يهدّد مستقبل الدول». هذا الدرس ينطبق تماماً على الحالة السورية، حيث إن استمرار وجود مكونات مسلحة خارج إطار الدولة، سواء من المقاتلين الأجانب أو التنظيمات المتطرفة، يعرقل أي إمكانية لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية.

إن ما جرى في الساحل السوري لا يمكن اختزاله في كونه مجرد «مؤامرة خارجية»، رغم أن هناك أطرافاً دولية استثمرت في الصراع وأسهمت في تأجيجه. ومع ذلك، فإن الخطأ الأكبر كان داخلياً، حيث فشلت القوى الجديدة في التعامل مع المجتمع السوري بمنطق الدولة، وبدلاً من ذلك، تصرفت بعض الفصائل المسلحة وفق عقلية الحرب والثأر؛ مما أدى إلى وقوع مجازر بحق المدنيين، ووضع الطائفة العلوية في موقف الدفاع عن «وجودها»؛ وهو ما يغذّي سيناريو الحرب الأهلية.

إن مهمة السلطة الجديدة لا تقتصر على فرض سيطرتها العسكرية، بل يجب أن تتجه نحو بناء دولة قائمة على العدالة والمواطنة، وليس على منطق الانتقام. وإذا كان النظام السابق قد ارتكب جرائم بحق الشعب السوري، فإن الرد لا يكون بتكرار الممارسات ذاتها، بل بمحاسبة جميع المتورطين في الانتهاكات، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الطائفية.

في هذا السياق، يجب أن تلتزم السلطة الجديدة إجراءات عملانية عدة لإعادة بناء الدولة وضمان استقرارها، ومن أولويات ذلك: حلّ التنظيمات المتطرفة التي أسهمت في تأجيج الصراع، وضمان عدم تحولها إلى ميليشيات خارجة عن القانون، والتعامل مع ملف المقاتلين الأجانب وخطابهم الذي يتم تداوله اليوم أكثر حتى من الصور الوحشية للضحايا في ظل حالة فزع تنتشر بشكل كبير في الفضاء التداولي العالمي المهتم بالملف السوري حتى بين الذين يريدون منح سوريا فرصة للبحث عن «استقرار» والتغاضي عن أخطاء البدايات.

كما يجب توحيد جميع القوى العسكرية تحت جيش وطني موحّد يخضع لضوابط قانونية وتدريبات سياسية وحقوقية، بالإضافة إلى محاسبة المسؤولين عن الجرائم بحق المدنيين بالجدية ذاتها التي تتم فيها ملاحقة فلول النظام السابق.

والأهم، ضرورة التفكير باستراتيجية صلبة وقوية لإصلاح العلاقة مع أهل الساحل السوري والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالسكان، عبر تحقيق العدالة السريعة وضمان الأمن والاستقرار، بما في ذلك الانفتاح على جميع القوى السياسية والاجتماعية، والعمل على عقد مؤتمر وطني شامل وحقيقي غير شكلاني لرسم ملامح مستقبل سوريا.

يجب أن تدرك السلطة الجديدة أن إعادة بناء سوريا تتطلّب قرارات جريئة ومسؤولة، وأن أي محاولة لإقصاء طرف معين سيؤدي إلى تكرار السيناريوهات الكارثية التي شهدتها دول أخرى مثل العراق وليبيا ولبنان خلال الحرب الأهلية. لذا، فإن الأولوية يجب أن تكون لترسيخ مفاهيم الدولة المدنية، ومنع تكرار الفظائع التي جرت في الساحل أو أي منطقة أخرى، فالمطلوب هو بناء الثقة ليس لطمأنة أهل الساحل، بل لاستقطاب بقية المناطق التي ما زالت تشكّك وتقلق حول الانضمام إلى الجسد الوطني وهم لم يروا «الشخصية الوطنية» الجامعة.

هناك مسافة لا تخطؤها العين بين تصريحات القيادة الجريئة والمطمئنة للمحاسبة، والخطاب المضمر والمعلن للكتلة الوازنة من المقاتلين، وهي معادلة صعبة، لكن الرصيد الهائل من دعم دول الاعتدال، وفي مقدمتها السعودية، للحيلولة دون انزلاق سوريا إلى مربع الحرب الأهلية وتفكك الدولة وتقسيمها -لا سمح الله- وقدرة هذه الدول على إقناع الدول الغربية التي عادت إلى المربع الأول في مخاوفها ضمانة إذا ما اتّخذت الخطوات الجادة.

الأكيد أن سوريا اليوم أمام مفترق طرق ومنعطف تاريخي، فإما أن تسلك طريق المصالحة وإعادة البناء، وإما أن تنزلق نحو دوامة حرب أهلية لا نهاية لها. والمطلوب الآن هو إرادة سياسية قوية، وقرارات تضع المصلحة الوطنية فوق أي اعتبارات أخرى، حتى تتمكّن البلاد من تجاوز جراح الماضي، والانطلاق نحو مستقبل أكثر استقراراً وعدالة... على سوريا ببساطة ألا تدع الخارج يفاوض عنها ويبني شخصيتها لأنها فشلت في رسم تلك اللوحة المرصعة بالتنوع والثراء.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأزمة السورية وبناء شخصية وطنية الأزمة السورية وبناء شخصية وطنية



GMT 08:24 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

تركيا والقبعات المتعددة

GMT 08:21 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

كارثة وفاة سباح الزهور

GMT 08:19 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

عبد الوهاب المسيرى.. بين عداء إسرائيل والإخلاص للوطن

GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt