توقيت القاهرة المحلي 02:18:11 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تركيا... عودة الشياطين

  مصر اليوم -

تركيا عودة الشياطين

بقلم : أمير طاهري

«كان ماضينا في آسيا ولكن مستقبلنا في أوروبا».. كانت هذه هي الطريقة التي صور بها مسعود يلماز رؤيته لتركيا في حلقة نقاش جرت في دافوس في تسعينات القرن الماضي.
في ذلك الوقت، كان يلماز، الذي توفي الأسبوع الماضي عن 73 عاماً، أحد النجوم الصاعدين في السياسة التركية وأحد رموز جيل بدا أنه سيكمل ثورة بدأت في ثمانينات القرن التاسع عشر في الإمبراطورية العثمانية. كانت تلك الثورة تهدف إلى تحويل الإمبراطورية المحتضرة إلى دولة حديثة على النمط الغربي قادرة على عكس اتجاه أكثر من قرن من الانحدار أكسب دولة الخلافة لقب «رجل أوروبا المريض».
مع بداية القرن العشرين، أصبح من الواضح أن بناء دولة على النمط الأوروبي الحديث استناداً إلى مبادئ «سيادة ويستفاليا» يتطلب وجود أمة أيضاً بالمعنى الأوروبي للمصطلح، أشبه بالمهمة المستحيلة ما دامت الدولة العثمانية إمبراطورية متعددة القوميات استندت شرعيتها إلى الدين الذي يستبعد مفهوم الدولة القومية ذاته.
وفّرت الحرب العالمية الأولى وتفكك الإمبراطورية العثمانية مساحة يمكن فيها للنخبة العسكرية والفكرية بقيادة مصطفى كمال باشا (أتاتورك) إمكانية استحداث أمة تتناسب مع الدولة الغربية الحديثة التي كان يرغب في تشكيلها. وبمساعدة اللغويين الفرنسيين، تبنت تركيا الجديدة أبجدية جديدة قائمة على اللاتينية، وعملت في لغتها الجديدة على استبعاد أكبر عدد ممكن من الكلمات الفارسية والعربية، واستولت على المؤسسات الدينية باسم العلمانية.
بحلول ثمانينات القرن الماضي، امتلكت تركيا كل مظاهر الدولة القومية الغربية، وكانت أيضاً حليفاً مهماً في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومرشحاً للعضوية الكاملة في المجموعة الاقتصادية الأوروبية (الاتحاد الأوروبي لاحقاً). وبصفته وزيراً ثم رئيساً للوزراء في ثلاث مناسبات، لعب يلماز دوراً حاسماً في المفاوضات مع الأوروبيين، غالباً بمزيج من السذاجة والتشاؤم. لقد تجاهل يلماز وجيله من السياسيين الأتراك حقيقتين:
الحقيقة الأولى: رغم أن تركيا ما بعد الخلافة اكتسبت زخارف الدولة القومية على النمط الغربي، فقد كانت مثقلة بنظام اقتصادي ريفي يميل لمرحلة ما قبل الحداثة إلى حد كبير قائم على سيطرة الدولة وإساءة استخدام الدخل. وبفضل الإصلاحات الواسعة النطاق التي بدأها تورغوت أوزال واستمر فيها رجب طيب إردوغان، تمكنت تركيا، وإن كان بشكل متقطع، من وضع اقتصادها على طريق التحديث، غالباً من خلال اعتماد المعايير التي وضعها الاتحاد الأوروبي.
الحقيقة الأخرى: التي تجاهلها يلماز وجيله هي فشلهم في تطوير ثقافة سياسية حديثة يمكن من دونها استخدام هيكل الدولة الحديث والاقتصاد في خدمة مشاريع ما قبل الحداثة وغير الديمقراطية. هذا ما حدث في عهد إردوغان في المرحلة الأخيرة من ملحمته. ففي تلك المرحلة، حوّل إردوغان تركيا من مرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي وطامح إلى مقعد أمامي في العالم الغربي إلى متحدٍّ، ناهيك بكونها دولة مثيرة للمشكلات تتسم بخطاب شديد الضراوة تجاه الغرب.
أدى هذا الانعكاس بالطبع إلى عودة بعض الشياطين القديمة. أول هذه الشياطين هو نظام سلطوي من النوع الذي مارسه السلطان سليم، أكثر الخلفاء العثمانيين إثارة للجدل. وعلى نحو متزايد، يحاول إردوغان حكم تركيا بأمر قانوني، متجاهلاً في كثير من الأحيان حتى أدنى قدر من الاحترام الرسمي لمجلس وزرائه أو البرلمان أو حتى حزبه السياسي. يتفاجأ الوزراء أحياناً بمعرفة المزيد عن القرارات الجديدة من خلال وسائل الإعلام وليس من خلال قنوات صنع القرار الرسمية. في بعض المجالات الرئيسية، ولا سيما السياسة الخارجية، أنشأ إردوغان نمطاً من السياسات الشخصية أقرب إلى استبداد نمط العالم الثالث منه إلى السياسة الديمقراطية الحديثة.
الشيطان الثاني الذي يعود ليطارد السياسة التركية هو السعي وراء الشرعية القائمة على الادعاءات الدينية. وهكذا يتنكر إردوغان الآن في صورة «غازي» (المحارب المقدّس) ويصف أي شخص يجرؤ على تحدي سياساته بأنه «عدو للإيمان الحقيقي الوحيد».
وصف بعض المعلقين مشروع إردوغان بأنه عثماني جديد. ومع ذلك، أصبح من الواضح الآن أن ما يقدمه هو عثمانية مزيفة وليس النبيذ العثماني القديم في زجاجة جديدة. كانت الإمبراطورية العثمانية عبارة عن فضاء متعدد الجنسيات والأديان كان يقبل في كثير من الأحيان، إن لم يكن مشجعاً، قدراً جيداً من التنوع حتى في المجالات الثقافية والشخصية والقانونية بينما يلاحق إردوغان سراب التوافق تحت حكمه.
الشيطان الثالث هو بناء الإمبراطورية. فعلى الرغم من بناة الإمبراطوريات من الدرجة الأولى، كان العثمانيون دائماً حريصين على عدم عض أكثر مما يمكنهم مضغه. ومع ذلك، يقود إردوغان تركيا إلى مغامرات بناء إمبراطورية لا تريدها ولا تستطيع تحملها. فتركيا الآن متداخلة بعمق في قبرص وليبيا والبلقان ومؤخراً تخاطر عبر القوقاز بصراع مباشر مع روسيا وإيران، وأثارت مواجهة يحتمل أن تكون خطرة مع فرنسا في بحر إيجه وشنت حرباً كلامية مع الاتحاد الأوروبي برمته. ظاهرياً، فإن الطموحات التركية تدور حول خطوط الترسيم البحرية القديمة التي تحرمها من حق استغلال موارد النفط والغاز تحت الماء. وما لا يدركه إردوغان هو أن السوق المحتملة لتلك الموارد هو الاتحاد الأوروبي ذاته الذي يعده الآن عدواً. على أي حال، لا يمكن استغلال الموارد المتنازع عليها من دون استثمارات ضخمة من الغرب ناهيك بالتكنولوجيا اللازمة.
في أفريقيا السوداء، تحاول تركيا كسب موطئ قدم بمزيج من الرشوة والدعاية الدينية.
كما قادها مشروع بناء إمبراطورية إردوغان إلى انخراط أعمق مع فلول الإخوان المسلمين، ومن خلالهم، مع أعضاء جهاديين قد يقررون يوماً ما مضايقة تركيا نفسها. واستنساخاً للخمينيين الذين شكّل جحافلهم الأجنبية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، يقوم إردوغان بتجنيد مرتزقة من التركمان في العراق وميليشيا الجهاديين المحليين في محافظة إدلب السورية.
ومؤخراً عاد شيطان الفساد أيضاً إلى الولوج بقوة إلى السياسة والأعمال التركية. من المؤكد أن الفساد موجود في كل من الإمبراطورية العثمانية والجمهورية الكمالية التي حلّت محلها في آسيا الصغرى. ولكن في كلتا الحالتين جرى الاحتفاظ ببعض القيود باسم الاستقامة الدينية أو المصلحة الوطنية. الآن، ومع ذلك، فإن الفساد يتجاوز كل الحدود، حتى الحد القديم الذي حددته دراسة للأمم المتحدة في السبعينات، وبعد ذلك أصبح أسلوب حياة بدلاً من مجرد انحراف.
أثبت يلماز وكثيرون في جيله من السياسيين الأتراك أنهم دعاة زائفون للتغريب. فبمساعدة غير مباشرة من السياسيين الأوروبيين مثل جاك شيراك، الذي ما زال ينظر إلى مصطلح «ترك» على أنه تهديد للمسيحية، ضاعت فرصة المصالحة النهائية مع قارة كانت تركيا جزءاً لا يتجزأ منها لآلاف السنين. ومن خلال الترويج للانفصال الاستراتيجي مع أوروبا، يقود إردوغان تركيا إلى المجهول بوازع من الشياطين الخادعة التي تهمس في أذنيه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تركيا عودة الشياطين تركيا عودة الشياطين



GMT 00:00 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

المخادعون

GMT 00:00 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الانتقام الإيرانى كثيف وناعم ومثير

GMT 21:30 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

المعايير الأمريكية بين غزة والسودان

GMT 00:00 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الصواريخ بين الأدب والسياسة!

GMT 21:13 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

تجديد النخبة

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 18:31 2020 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

آندي روبرتسون يخوض لقائه الـ150 مع ليفربول أمام نيوكاسل

GMT 06:47 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز بعد نهاية الجولة الـ 13

GMT 02:10 2020 الخميس ,10 كانون الأول / ديسمبر

7 أسباب تؤدي لجفاف البشرة أبرزهم الطقس والتقدم في العمر

GMT 22:29 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

أحمد موسى يعلق على خروج الزمالك من كأس مصر

GMT 11:02 2020 الجمعة ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرّف على أعراض التهاب الحلق وأسباب الخلط بينه وبين كورونا

GMT 03:10 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

زيادة في الطلب على العقارات بالمناطق الساحلية المصرية

GMT 22:14 2020 الجمعة ,18 أيلول / سبتمبر

بورصة بيروت تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,21 إبريل / نيسان

خسائر خام برنت تتفاقم إلى 24% في هذه اللحظات

GMT 17:36 2020 الأحد ,12 إبريل / نيسان

الصين تعلن تسجيل 99 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 12:34 2020 الأربعاء ,08 إبريل / نيسان

شنط ماركات رجالية لم تعد حكرا على النساء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon