توقيت القاهرة المحلي 10:27:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بوتين... من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف

  مصر اليوم -

بوتين من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف

بقلم : أمير طاهري

مع استمرار الحرب في أوكرانيا يتساءل كثير من المعلقين أين ومتى سيقرر فلاديمير بوتين وضع نهاية لسلوكه العدائي الحالي. إذا ما قمنا بالغوص في التاريخ الروسي ربما نجد البعض يؤكد أنه حتى إذا توقف عما يفعله فسيكون ذلك تحركاً مرحلياً على شاكلة ذلك التحرك الذي وصفه لينين بأنه «خطوة واحدة للوراء وخطوتان للأمام»، فسلوك بوتين لديه جذور في تكوين النفس الروسية.
ظل الروس منذ بداية ظهورهم كشعب مميز يخشون أن يصبحوا مثل الآخرين، فنظراً لافتقارهم إلى أشكال الدفاع الطبيعية، كانت أراضيهم الشاسعة معرّضة للغزو الأجنبي. يطرح نيكولاي تشيرنيشيفسكي في روايته «ما الذي يمكن فعله؟» سؤالا عما إذا كان على روسيا أن تصبح أوروبية أو آسيوية أم تظل كما هي وتجعل أوروبا وآسيا مثلها. بالنسبة إلى خومياكوف وغيره من أنصار القومية السلافية، لا ينبغي على روسيا السماح بخسارة أي جزء من تربتها أو روحها لصالح الآخرين حتى تؤدي واجبها كروما الثالثة وآخر حاملي لواء المسيحية الحقيقية.
لذا عندما يقول بوتين إن أوكرانيا كانت وما زالت روسية، ويجب أن تعود روسية مرة أخرى، فإنه يعبر عن كبرياء قومية لها جذور ضاربة في العمق تجعل أي علاقة مع العالم الخارجي قائمة على الصراع بفعل الواقع. لقد عبّر لينين عن ذلك الغرور الروسي القديم بأسلوبه من خلال استخدام نسخة تم إساءة فهمها من الجدل الهيغلي. وقد كتب: «سنكون آمنين ونصرنا سيكون نصراً حقيقياً فقط عندما تنجح قضيتنا في العالم أجمع». لقد تقبل التعايش بين الاشتراكية والرأسمالية خلال «فترة انتقالية»، لكنه أصرّ على أن روسيا في ثوبها البلشفي آنذاك لن تكون في أمان «إلى أن تغزو قضيتنا العالم بأسره». كذلك كتب: «من غير المعقول للجمهورية السوفياتية أن توجد إلى جانب دول إمبريالية لأي مدة من الزمن. يجب أن ينتصر أحد الطرفين في النهاية».
لقد ارتكب لينين خطأين في استخدامه للجدلية؛ أولاً لقد افترض ضرورة حل الصراع بين الأطروحة والأطروحة المضادة «في النهاية» وهو نطاق زمني خيالي. ثانياً لم يتمكن من إدراك أن الصراع في الجدل الهيغلي ينتهي بأن الاثنين يمثلان ولا يمثلان الأطروحة والتأليف مع تمثيل واقع ثالث جديد. بعبارة أخرى يمكن القول إن الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية ليس مثل مباراة ملاكمة يجب أن تنتهي بعد عدد محدد سلفاً من الجولات بفوز أحد الطرفين بالضربة القاضية.
في نهاية الخمسينات بعدما أصبح تفاخر نيكيتا خروشوف بـ«دفن العالم الرأسمالي» بحلول عام 2000 نكتة سخيفة، أعاد من خلفوه قولبة الرؤية ذات المظهر الروحاني لخومياكوف ولينين الخاصة بدور روسيا في التاريخ من خلال التخلي عن الجوانب المسيحية والشيوعية، وجعلوها مستندة إلى الحفاظ على مصالح روسيا ونفوذها كدولة. مثّل ذلك ميلاداً لعقيدة بريجنيف، التي لن تسمح روسيا بموجبها لأي دولة كانت تقع ضمن نطاق النفوذ الروسي أو كان لديها نظام شيوعي، بالانفصال والانضمام إلى «الجانب الآخر».
طبقاً لهذه العقيدة قمعت الدبابات الروسية ربيع براغ، وحاولت لاحقاً الحفاظ على النظام الشيوعي المتداعي في كابل من خلال غزو أفغانستان، حيث لم يكن الهدف غزواً عالمياً أو هيمنة عالمية، بل تمسك بالجزء الروسي من العالم. حين وصل ميخائيل غورباتشوف إلى رأس السلطة في الكرملين، كانت الكارثة الأفغانية وتنامي السخط في شرق ووسط أوروبا جعلا من عقيدة بريجنيف لا لزوم لها.
وضع غورباتشوف عقيدته الصغيرة الخاصة من خلال الاعتراف بما تسمى الجمهوريات الشعبية في منطقة النفوذ الروسي في أوروبا، بل ومساعدتها في بعض الحالات في المضي في طريقها المستقل شريطة عدم إقصاء روسيا تماماً. كانت رسالته الباطنية هي إمكانية تشارك الاتحاد السوفياتي و«العالم الرأسمالي» للغنيمة التي حظوا بها بعد الحرب العالمية الثانية، وإنشاء نظام عالمي جديد قائم على «قيم عالمية» و«مصالح مشتركة».
على عكس لينين، الذي رأى أن كل العلاقات قائمة على الصراع والتنافس، اعتقد غورباتشوف وجود إمكانية للجمع بين الأطروحة والأطروحة المضادة في رقصة تانغو صناعية عالمية. من المثير للاهتمام أن الدول الديمقراطية الغربية قد أرادت بقاء الاتحاد السوفياتي كأحد أعمدة الاستقرار في أوروبا. وأكد جيمس بيكر الثالث، وزير الخارجية الأميركي خلال فترة حكم الرئيس جورج بوش الأب، أن «انعدام الاستقرار في أوروبا الشرقية ليس في مصلحتنا»، وكانت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى تناور من أجل تأجيل أو منع إعادة توحيد ألمانيا.
كذلك كرر غينادي غيراسيموف، المتحدث باسم وزارة الخارجية السوفياتية، في عام 1989 ما قاله ألكسندر ياكوفليف، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي، بطريقة مازحة قبل ذلك بعدة أسابيع بتأكيده أن الاتحاد السوفياتي أراد أن يكون جزءاً من نظام عالمي قائم على التنوع. قال: «اليوم تبنينا عقيدة سيناترا بدلاً من عقيدة بريجنيف وهو ما يسمح لكل دولة بالمضي في طريقها المستقل».
بطبيعة الحال كانت تلك إشارة إلى الأغنية الشهيرة للمغني الأميركي فرانك سيناترا «لقد فعلت ذلك على طريقتي»، والتي أحبها ألكسندر ياكوفليف، وأعضاء آخرون في المكتب السياسي من محبي صاحب العينين الزرقاوين. ظلت عقيدة سيناترا مطبّقة في الكرملين حتى بعد حلّ وتفكك الاتحاد السوفياتي، وهو ما أبقى الأمل في العثور على موضع ملائم لروسيا في نظام عالمي جديد خالٍ من التنافس الآيديولوجي وسباق تسلح وتنافس إمبريالي على الهيمنة في «العالم الثالث» قائماً.
بغض النظر عن الطرف المسؤول لم تتحقق آمال العثور على موضع ملائم لروسيا قط، وربما يعزى ذلك بشكل ما جزئياً إلى رغبة روسيا الدائمة في الحصول على أكثر مما تستحق، وتقديم القوى الغربية أقل مما تستحقه روسيا. تمثل لغة بوتين القومية المتطرفة المتشددة، ووهم الاجتياح لتحقيق مكاسب في أوكرانيا رداً جافاً على ذلك الواقع. من المؤكد أنه قد دفن عقيدة سيناترا، لكن لا يمكن للمرء أن يؤكد ما إذا كان قد عاد وارتد إلى عقيدة بريجنيف بالكامل أم لا.
توضح الإشارات المتعارضة القادمة من موسكو أنه قد ينتهي به الحال إلى تبني الرئيس بوتين نسخة أكثر اعتدالاً من عقيدة بريجنيف من خلال القبول بضمّ قطعة أخرى من أوكرانيا. تقول ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية في موسكو، إن أوكرانيا «بشكلها الموجود على الخريطة وبتلك الحدود المرسومة قد انتهت ولن تعود مرة أخرى». تتمثل المشكلة في أنه إذا تمكن بوتين من إعادة تشكيل أوكرانيا في دولة أصغر حجماً، ربما يشعر بإغواء الارتداد إلى العقائد التي تبناها وأيّدها كل من خومياكوف ولينين التي تقوم على آراء مختلفة لهما، لكنها متشابهة في طابعها الروحاني، عن دور روسيا في التاريخ الإنساني. قد يعني ذلك نشوب صراعات أخرى، بل وحروب أخرى في أوروبا، وربما حتى في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. من وجهة نظر روحانية للشؤون الإنسانية كثيراً ما تكون معرفة نقطة البداية أمراً سهلاً، لكن من الصعب معرفة موضع نقطة النهاية. لهذا السبب ربما لن تكون حتى نهاية الحرب في أوكرانيا أمراً كافياً لاستعادة سلام دائم في أوروبا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بوتين من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف بوتين من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف



GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt