بقلم:عزة كامل
فى المحطة، كانت تتسكع خلف الرائحة التى تخترق أنفها، رائحة اعتادتها، ولا تتذكرها، الذاكرة المشوهة التى تقفز منها الأفكار، جعلت سنوات عمرها تمر مشوهة ومربكة، ومن بعيد تأتى كلمات: «صعبنا علينا منكم» بصوت فايزة أحمد الشجى، فتزيدها الأغنية ارتباكا وشجنا، تحاول ترديد مقطع الأغنية، يأتى صوتها مشروخا، يستوقفها مشهد امرأة ريفية تفترش الأرض أمام سلال مكدسة بالخضروات والفاكهة، يقترب منها كلب فتخرج من كيسها الصغير فطيرة معجونة بالسمن، تقطعها وتطعمه وسط ضوء ينساب برهافة على وجهها الجميل، دوى صوت القطار من بعيد مقتربًا من المحطة، ركبت وجلست على مقعد بجوار امرأة تشغل المقعد الملاصق للنافذة، وأمامها رجلان وبينهما فتى صغير، المرأة تنظر من النافذة صامتة وسارحة فى الملكوت، أحد الرجلين يقزقز «لب» ويلقى القشر على الأرض، والرجل الآخر يتحدث مع الفتى ويعطيه تعليمات ومواعظ، وبعد مرور وقت تكتشف المرأة الملاصقة للنافذة أن امرأة أخرى تجلس بجوارها، تتنهد بعمق وتخرج من حقيبتها رواية من روايات مصرية للجيب، عنوانها «مدينة الذئاب» لنبيل فاروق، تغطس بين دفتى الكتاب، تلتهم صفحاته، بينما صوت قزقزة اللب تزعجها، فتكتم غيظها من كمية قشر اللب الملقاة على الأرض بغزارة.
تسللت عيناها إلى الرواية، فاستطاعت التقاط بضع كلمات خوفا من أن تلاحظ امرأة النافذة أنها تتلصص عليها، بعد مضى بعض الوقت تركت المرأة الرواية جانبًا وراحت تتأمل مساحات الغيطان المترامية من النافذة، ثم فجأة استدارت وقالت بنبرة حافظت على أن تكون هادئة: حضرتك نازلة آخر الخط؟، فأجابتها الأخرى بتشكك: «نعم»، فجأة انطلق لسان امرأة النافذة وأخذت تتجاذب مع الأخرى أطراف أحاديث كثيرة، والتى انتهت بعد ما يقرب من ساعتين، حكت امرأة النافذة عن نفسها وعن حياتها وعن مشاكلها وعن أشياء بدت غير مفهومة فى بعض الأحيان للمرأة الأخرى، وكأنها كانت تريد أن يسمعها أحد، لا تريد منها شيئا، لا تعاطف، لا ردود فعل، لا حكم قيمى، فقط تريد أن تسمع، وبينما كانت تتكلم كانت تفرك صوابعها بحركة عصبية، ثم سألت المرأة: هل معك زجاجة ماء، فأعطتها المرأة الأخرى زجاجة ماء صغيرة، شربتها فى نهم دفعة واحدة كأنها لم تشرب منذ أيام، وتوقفت عن الكلام بطريقة مربكة، ووقفت بعد أن أغلقت صفحات روايتها وحقيبتها وقفزت فوق أقدام الجالسين، وعبرت عربة القطار إلى عربة أخرى بينما الرجل مازال يعظ الفتى والآخر مستمر فى قزقزة اللب.