توقيت القاهرة المحلي 03:10:26 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نريد أن نعرف عن درويش!

  مصر اليوم -

نريد أن نعرف عن درويش

بقلم - سوسن الأبطح

شهادة الكاتب والقيادي في حركة «فتح» نبيل عمرو التي حملت عنوان «لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة»، ونشرت في «الشرق الأوسط» قبل أيام، عن علاقة ياسر عرفات بمحمود درويش، بمناسبة مرور 15 سنة على وفاة الأخير، تفتح الشهية لمعرفة المزيد، عن هذا الجانب الخفي من حياة أحد أنبغ شعراء العرب في العصر الحديث. حياة الأديب تدرس بكليّتها وشموليتها، وقصائده تعاد قراءتها على ضوء المعلومات المستجدّة التي غالباً ما يلقى عليها الضوء بعد مرور سنوات على الغياب. تستّر درويش على حياته السياسية وكأنها عورة تضرّ بالشعر وجماليته، وتجرح قرّاءه، من المفترض أن تسقط بمرور الزمن، ومن حقّ القارئ على زملاء الشاعر ورفاقه في منظمة التحرير، وعايشوا تفاصيل تلك التجربة التاريخية المفصلية في الحياة العربية، أن يبوحوا بما لديهم.

بعض السُتر أشيحت، لكن ما نعرفه لا يفي بتوضيح الصورة. الوقت يمرّ سريعاً، والذاكرة يأكلها النسيان. ترك المساحات البيضاء يملأها محبو التصيد والتسلي بحياة محمود درويش العاطفية وعلاقته بالنساء وادعاء أبوته لأطفال والقرب المزيف منه، تسيء للشاعر، وصمت أصدقائه الخلّص، يُبقي علاقة القراء به منقوصة، وصورته مجتزأة في الوجدان. حذّر الباحث شكري ماضي قبل سنوات طويلة من مغبّة تحويل محمود درويش إلى أسطورة واختزاله وتحنيطه، بحيث يمنع المسّ به، كان ذلك في كتابه «شعر محمود درويش... آيديولوجيا السياسة وآيديولوجيا الشعر».

فكل أديب أو نجم، يحلو له أن يرسم لنفسه هالة خلال حياته، يتمنى لها ألا تخترق، لكن وظيفة النقاد أن يمزقوا الحجب، وواجب النائمين على الأسرار أن يقربونا من الحقيقة، ويدلوا بما لديهم، حتى وإن كان درويش قد رأى في حياته عكس ذلك، بخاصة في مرحلة ما بعد ثمانينات القرن الماضي وخروجه من بيروت، ودخوله مرحلة الكتابة الرمزية، والبعد عن المباشرة.

درويش يملك من العبقرية الشعرية الفذة، ما كان يسمح له أن يكتب عن أوسلو وعرفات وشارون بغنائية شعرية لا تصدّق، لكنه لم يرَ مصلحة فنية في ذلك، وربما أنه كما يقول عنه صقر أبو فخر «هو شجاع لكن يرتجف». فقد كتب شعراً قصص طفولته الأكثر حميمية. كتب عن حادث الباص الذي تعرض له، عن أخته التي ماتت، عن نجاته مراراً من الهلاك، عن تعرضه للغرق في البحر بسبب جهله التعامل مع الماء. نقرأ هذا في ديوانه الأخير «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، وكنا نتمنى حقاً لو أنها لم تنتهِ، وصف مدهش لطفولة وشباب عاديين. يمكنك حقاً أن تصف ما كتبه على أنه اختزال وتقطير ولغوي نادرين حين يحدثك عن أنواع الأمراض التي تعاني منها عائلته، عن الخلل في الشرايين، إلى ضغط الدم، والإنفلونزا، والخجل المزمن وصولاً إلى الفشل في الغناء.

تفتح عينيك واسعتين حين يصل لوصف تفاصيل جسده في قصيدة «لاعب النرد» ويخبرك: «لم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً!» ليست هذه القصيدة الوداعية التي ألقاها على جمهوره من ديوانه الأخير استثنائية. لمحمود درويش نبوغ لغوي خارق في قدرته على إيهامك بالنثر وهو يكتب شعراً، ويجعلك تلهو بالإيقاع، بينما هو يحكي لك عن تفاصيل يومياته في الكثير من الدواوين. هذا وافر في «ذاكرة للنسيان» و«أثر الفراشة» و«في حضرة الغياب». دواوين في غالبيتها أتوبيوغرافيا درويشية مذهلة، والترميزات السياسية فيها، حتماً تحتاج إلى من يعرف مكامنها وخلفياتها، ومقاصدها. وهذا لن نصل إليه من دون مساعدة رفاق درويش الأقرب.

في المقالة التي كتبها نبيل عمرو، وهو ذكر المزيد في كتابه «محمود درويش حكايات شخصية» واضح أن الشاعر كان مثقفاً حراً ومستقلاً، رغم علاقته الوثيقة بعرفات، وتقاضيه راتباً من منظمة التحرير. فهو أحد الأدباء العرب الندرة الذين تفرغوا للكتابة وتمتعوا بترف التمويل، ومع ذلك لم يشعر بأنه يُشترى أو يُستأجر، وأن عليه أن يرضخ، أو يبيع مبادئه. عارض الكثير من مواقف عرفات وسياساته، وحين استوجب الأمر أن يستقيل من اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، فعل وعاند. وثمة من يروي أن تحويلاته المالية من منظمة التحرير شحّت، في تلك الفترة، بسبب معارضته اتفاق أوسلو وغضب عرفات منه، وأنه عاش في ضائقة في باريس، ومع ذلك لم يخفض السقف، ولم يتنازل عما اعتقده صواباً. تفاصيل كثيرة، وخبايا هي جزء من تاريخنا، وأساسية لقراءة نتاج محمود درويش الغني. فكل تفصيل في حياته الشخصية كان يتموضع على مفصل سياسي حاسم. والروايات المتعددة حين تتقاطع، هي وحدها قادرة على أن تشكل التراكم المعرفي المساند للبحث العلمي الحق.

حين سئل درويش في مقابلة تلفزيونية عام 2001: في ما يتعلق بصورتك، هل تستطيع أن تفصل بين الشعر والسياسة؟ أجاب «لا مش قادر أفصل».

ونحن كقراء وعشاق لقامة شعرية بتنا على ثقة بأنها لن تتكرر «مش قادرين نفصل»، حتى ولو أراد صاحب الشأن أن يقنعنا طوال حياته، بغير ذلك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نريد أن نعرف عن درويش نريد أن نعرف عن درويش



GMT 16:07 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 05:34 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

اتفاق غزة... الأسئلة أكثر من الإجابات!

GMT 00:17 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

في معنى «التنوير»

GMT 19:46 2024 الأربعاء ,08 أيار / مايو

قراءة في مذكّرات يوسف حمد الإبراهيم

GMT 19:45 2024 الأربعاء ,08 أيار / مايو

محاولة بعث الصدام الحضاري

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 01:52 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

بدء تحرك الرصيف البحري الأميركي نحو غزة
  مصر اليوم - بدء تحرك الرصيف البحري الأميركي نحو غزة

GMT 14:14 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

أمير المصري يكشف عن شخصيته في فيلم Giant
  مصر اليوم - أمير المصري يكشف عن شخصيته في فيلم Giant

GMT 19:30 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

طريقة إعداد ورق عنب مع كوسا وريش

GMT 08:40 2014 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

التونة والدجاج تساعدان في زيادة خصوبة الزوجين

GMT 08:42 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

ريم البارودي تبدو أنيقة في بدلة وردية اللون

GMT 05:38 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الدكتور محمود الموجي يُبيّن أسباب رائحة الفم الكريهة

GMT 20:55 2014 الخميس ,14 آب / أغسطس

استقرار اﻷوضاع اﻷمنية في شوارع الأقصر

GMT 05:44 2015 السبت ,03 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل مربى التفاح بالقرفة

GMT 16:29 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شركة سكودا تطلق الجيل الجديد من موديل سوبيرب

GMT 11:12 2021 الجمعة ,03 أيلول / سبتمبر

حمو بيكا يدعم طفلة مريضة سرطان ويقدم لها هدية

GMT 16:42 2021 السبت ,12 حزيران / يونيو

فساتين صيفية بتصميمات مُريحة من وحي النجمات

GMT 17:36 2021 الإثنين ,24 أيار / مايو

تراتيل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon