توقيت القاهرة المحلي 01:25:47 آخر تحديث
  مصر اليوم -

في ذكرى سنوات عشر

  مصر اليوم -

في ذكرى سنوات عشر

بقلم :تمارا الرفاعي

عشر سنوات أمضاها معظم السوريين في نقاشات حامية لتحديد مواقفهم والتأكيد عليها، هذا إن استطاعوا أن ينفذوا بأرواحهم أصلا. عشر سنوات رمت بالبلد في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية على الإطلاق وجعلت من الصعب حتى تذكر ما كانت عليه الأمور قبل ذلك. هناك ما سبق السنوات العشر الأخيرة وما تلاها.
***
في أسبوع الذكرى العاشرة لانطلاق المظاهرات في سوريا، قررت أن أتذكر سوريا على طريقتي، أتذكر ما أحببت فيها وما أنقله معي حيث أحط مع حقائبي. يستهلك تقشير ونقع قشر النارنج مني ثلاثة أيام حتى أصنع كمية جديدة من المربى قبل انتهاء الموسم. تمتلئ أمسياتي هذا الأسبوع بأصوات شبابية تغني أغاني تقليدية بعضه كنت أعرفه فأدندنه معهم وبعضه لم أكن قد استمعت إليه من قبل إنما اكتشفته في السنوات الأخيرة مع المساحات التي خلقتها شبكات التواصل الاجتماعي لشرائح من السوريين لم يلتقوا بالضرورة من قبل.
***
أنا أرمم قلبي بالموسيقى والنكهات، اعتمدتها ضماداتي الخاصة، ففي يوم رحيل صديق عزيز علي وعلى الكثيرين، هاتفتني صديقة لتسأل كيف تلقيت الخبر فأجبتها أنني أغرق في رائحة البرتقال عمدا بعد أن قررت أنني بحاجة لأن أشمها علها تخفف من المصاب.
***
قد أصف أحيانا شعوري بالحنين أو بالنوستالجيا، وكأنني أحتفظ بنثرات من حيوات سابقة أجردها عمدا من أي سياق سياسي وأغلفها بإحكام حتى لا تتعفن. أنا لا أقلل من السياق السياسي ولا أتجاهله، إنما أقرر أنني، ولو لدقائق معدودة، سوف أضغط كمية وافرة من الذكريات السعيدة في إناء من الزجاج كمن يعد أواني الزيتون كل سنة. ها أنا أرص إناء بعد الآخر على رفوف في غرفة صغيرة أمنع عائلتي من الدخول إليها. أختار أن أطلعهم على بعض ما فيها أحيانا، فأحكي قصة حمام السوق مثلا لأولادي وهم لا يفهمون أن ثمة مكان للقاءات والسمر والقصص على البخار ورائحة صابون الغار. قد لا تهزهم، أي أولادي، رائحة الغار أصلا، فهم لا يعيشون كما عشت أنا في حضن جدة لم تفكر قط باستبدال الغار بصابونة حديثة برائحة الزهور.
***
من المجحف وصف الحنين بالنوستالجيا، وهي كلمة صارت تحمل تهكما وكأنه اتهام بالسذاجة. أظن أن لكل طريقته بترميم قصة يريد أن يحتفظ بها، قد تطغى عليها التفاصيل الحسية كالروائح والمذاقات، كما هو الحال في محاولتي للترميم، أو قد تطغى القسوة والمشاهد العنيفة التي يصعب تلوينها برائحة النارنج مهما حاولنا. أقول أن في جعبتي على الأقل ذاكرة بصرية وحسية عن مكان أستطيع أن أتلاعبه وأعيد تشكيله لأفرده أمام آخرين لم يزوروا سوريا قبل الدمار. أحكي عن الأسواق والحرير والحرفيات ثم أشعر أنني مثل تجار الشنطة أفتحها لأبيع الحكايات.
***
هناك شنطة أخرى فيها كوابيس لا أفتحها إذ لا أريد أن تتدخل في سردية قررت أن أركز عليها هذا الأسبوع، فيما يركز الكثيرون على جوانب أخرى مما عاشه السوريون في السنوات العشر الأخيرة. أقرأ النقاشات على شبكات التواصل الاجتماعي ولا أستغرب من قسوتها، أكاد أن أجزم أن حدة النقاشات توازي عنف ما حدث هناك، وسط شعب كان أغلبه يمشي في الظل خوفا من أن تناله صفعة، وحين رفع رأسه متسائلا إلى متى انهارت فوق رأسه السماء.
***
هذا الأسبوع هو أسبوع حارة قديمة عادية، سكن بيوتها جيران تتشابه حياتهم اليومية، ذهب أطفالهم إلى مدارس الحي، وزرعت نساؤهم ورودا ملونة في الربيع لتزيين الشرف أو الحدائق الداخلية. لا ترف ولا تصنع، حركات تلقائية تحضر الفطور وترش الزعتر ثم تقشر البصل وتقليه في الزيت حتى يتقرمش، أصوات أسمعها من خلال الجدران "يا كريم، يا أمل، خلصتوا الوظائف؟" (أي الواجبات المدرسية). أم تفتح باب بالبيت بعد أن رمت على رأسها طرحة الصلاة لأنها كانت أقرب إليها من المنديل، جارة لا تغطي شعرها سحبت كرسيا صغيرا بلا ظهر وجلست أمام منزلها تراقب الأحداث.
***
ماذا كانت الأحداث؟ يعود الجار إلى بيته حاملا كيسا فيه خضراوات، يبدو أنهم سيطبخون المحاشي غدا وعلى الأغلب سيرسلون طبقا لضيافة الجارة التي رأت الكيس "أهلين جارنا يعطيك العافية". الشابة تعود من عملها في إحدى المدارس القريبة، ما أجملها، يقال أن لغتها الفرنسية ممتازة حتى أنها قد تفوز بمنحة لدراسة الماجستير في الخارج.
***
أشعر أن شيئا ينقص في المشهد، ثم أشم رائحة القهوة العربية! أعترف أنني لست من محتسيها إلا في المناسبات حين تشربها الأخريات فأنضم إليهن. إلا أنني في هذا الأسبوع أقف في مطبخي وحدي لأغلي لنفسي قهوة تملأ رائحتها المكان والقلب. في ساعة محددة من بعد ظهر كل يوم، تملأ رائحة القهوة مداخل البيوت وقد تصل إلى الحارة. يجب وضع الإناء التي صنعت فيه القهوة مع فنجانين على صينية، ويجب تغطية الإناء بطبق صغير يرفع لصب فنجان جديد ثم يعاد للحفاظ على حرارة القهوة.
***
أحمل الصينية خاصتي مع فنجاني الوحيد وأجلس وسط رائحة البرتقال في المطبخ. هنا مخزوني الكامل من الحنين أفرشه أمامي في أسبوع ذكرى السنوات العشر التي قلبت حياة السوريين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في ذكرى سنوات عشر في ذكرى سنوات عشر



GMT 01:25 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

شبنغلر وابن خلدون

GMT 01:23 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

قراءة في الرد الإيراني!

GMT 01:21 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

عودة إلى التراث المغمور بالمياه في السعودية

GMT 01:18 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

«بايدن» أكثر المأزومين!

GMT 13:02 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

اعترافات ومراجعات (51) الهند متحف الزمان والمكان

هيفاء وهبي بإطلالات باريسية جذّابة خلال رحلتها لفرنسا

القاهرة - مصر اليوم
  مصر اليوم - موناكو وجهة سياحية مُميّزة لعشاق الطبيعة والتاريخ

GMT 16:28 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

أنواع من الفواكه تحتوي على نسبة عالية من البروتين
  مصر اليوم - أنواع من الفواكه تحتوي على نسبة عالية من البروتين

GMT 00:01 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نيقولا معوض بطل النسخة العربية لمسلسل امرأة
  مصر اليوم - نيقولا معوض بطل النسخة العربية لمسلسل امرأة

GMT 16:13 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

"فولكس واغن" أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية
  مصر اليوم - فولكس واغن أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية

GMT 00:48 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

محمد رمضان يتصدر مؤشرات محرك البحث "غوغل"

GMT 23:26 2020 الجمعة ,17 إبريل / نيسان

السنغال تُسجل 21 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 11:27 2020 الإثنين ,02 آذار/ مارس

مجلة دبلوماسية تهدى درع تكريم لسارة السهيل

GMT 12:58 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

خطوات تضمن لكٍ الحصول على بشرة صافية خالية من الشعر

GMT 16:39 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

الحكومة المصرية تحصل على منح بـ 635 مليون جنيه
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon