توقيت القاهرة المحلي 08:38:15 آخر تحديث
  مصر اليوم -

على موعد مع المسحراتى

  مصر اليوم -

على موعد مع المسحراتى

بقلم : تمارا الرفاعي

  «شو بيعمل المسحر (المسحراتى) طول النهار؟» كان يشغلنى المسحراتى، أسمعه يدق على دفه فى ليالى رمضان ويوقظنى من نومى حين كنت أمضى الليل فى بيت جدتى. يا نايم وحد الدايم ويدق على الدف. جدتى كانت مقتنعة أنه يدق على قاعدة وعاء الطبخ بملعقة خشبية. بالنسبة للطفلة التى كنتها، هو شخص يظهر فى الليل وقد أخذ على عاتقه مهمة إيقاظ أهل الحى ليتناولوا وجبة السحور قبل أن يمسكوا عن الطعام حتى غروب الشمس فى اليوم التالى. لم أر المسحراتى قط، إنما أذكر أننى لاحقا كنت أسمع من والدتى أنه يظهر فى أول يوم من أيام العيد ليحصل على العيدية من سكان الحى. «كيف منعرف أنه هو نفسه اللى كل ليلة منسمعه؟» كنت أسأل جدتى فكانت تنهرنى لسوء ظنى به. «عيب تقولى أنه واحد عم يكذب برمضان» حسنا إذا، المسحراتى لا يكذب، ونحن نسمعه لكننا لا نراه، ثم ندفع العيدية لشخص نراه لكننا قد نكون لم نسمعه، وجدتى تقول إن لا أحدا يكذب فى رمضان.

كان العرف بحسب جدتى أن يغرف سكان الحى للمسحراتى جزءا من سحورهم يضعه هو فى الوعاء الذى يدق عليه، ومنها درجت عبارة «مثل سلة المسحر» لتعنى خلط كثير من الأمور ببعضها، كالمسحراتى الذى اختلطت فى وعائه أنواع كثيرة من الطعام أثناء جولته بين البيوت.

***

يزورنى المسحراتى فى القاهرة للمرة الأولى منذ أن تركت سوريا للدراسة ثم العمل. هذه السنة سمعت نداءه للمرة الأولى منذ زمن طويل فجلست فى سريرى متسائلة أين أنا. عدت طفلة نامت فى بيت جدتها واستيقظت على صوت الساحر المسحر. أسمع خطوات تيتة الخفيفة وهى تتحرك فى المطبخ فتقلى البيض وتسخن الخبز. هى تحتفى بى، حفيدتها ومدللتها رغم أنى وقتها لم أكن أصوم. أو كنت أمتنع عن الطعام والشراب حتى صلاة الظهر، وهو ما يسميه السوريون «الصيام حتى درجات المئذنة». لا أعرف مصدر هذا التعبير، أن تحدد المئذنة ساعات الصيام من الفجر حتى الظهر بالنسبة للأطفال، إنما أعرف أن جدتى كانت تعامل صيامى المختصر باحترام ومحبة، وتعد لى ولها السحور قبل أن تبدأ بصلاة الفجر وقراءة القرآن، ثم تعود للنوم.

***

فى القاهرة، حين سمعت طبلة المسحراتى فى الليلة الأولى من رمضان لم أستطع العودة للنوم. قفزت إلى الشباك علنى ألتقط ظل شخص غامض لم يظهر لى وأنا طفلة إنما قد أراه الآن وقد أصبحت أنا أما لأطفال يصومون هم الآخرون حتى درجات المئذنة. تخيلته يحمل فانوسا ملونا ويمضى فى شوارع الحى النائم فينير ضوء الفانوس الممشى من أمامه وتصل كلماته إلى آذان الجيران.

***

المسحراتى ساحر، أنا مقتنعة بذلك. يوقظنى من سباتى فأبتسم. ينشر عباراته المألوفة فيعيد لى رائحة السمن والبيض فى البيت القديم فى دمشق. ينقر على طبلة أو قاع القدر كما اعتقدت جدتى فتظهر القدر النحاسية المختلفة التى كانت تستخدمها سيدات دمشق لطبخ كميات من الطعام تكفى لعائلتهن ولـ«سكبة» للجيران كل يوم من أيام رمضان.

السكبة، أى أن تغرف سيدة الدار بعضا مما طبخته وترسله للجيران قبل الإفطار، من أجمل تقاليد رمضان على الإطلاق فى سوريا ومن أحبها إلى قلبى. كانت قد اختفت بمعظمها فى الأحياء الحديثة خلال السنوات الأخيرة التى عشتها هناك، تماما كما اندثرت كثير من عادات السوريين، إنما ظلت السكبة ترافقنى فى تنقلاتى أينما وضعت حقائبى. أشم رائحة الطهى فى مدخل العمارة فأتمنى أن ترسل لى الجارة طبقا صغيرا فيه بعضا مما تطبخه. أنا لا أعرف الجارة أصلا ففى حياتى الحديثة فى مدينة مثل نيويورك لا أتوقع أن يرسل لى أحد طبقا من الزجاج مرسوما عليه وردة برتقالية كالذى كان فى بيت جدتى وقد صب فيه المرسل بعضا من فتة الدجاج. كما سوف يستهجن من أرسل له سكبة من الجيران وأنا بالكاد أعرف اسمه. لكن الحق يقال، أنا أسمع من أصدقاء يعيشون فى مدن أصغر فى أمريكا أن ثمة عادة تنص على أن يرسل الجيران الحلوى والمخبوزات إلى من ينتقل جديدا إلى الحى، هذه هى إذا عادة السكبة تظهر فى بعض المدن الصغيرة.

***

هنا فى القاهرة، يصدح المسحراتى «يا نايم وحد الدايم» فينعش قلبى. أحبها هذه الشخصية التى لم أراها قط، أريد أن يحبها أولادى أيضا وأن يتذكروا أنهم سمعوها هنا، فى بيتنا فى القاهرة. قد لا يكون هناك مسحراتى بعد عشرين سنة حين يكبرون، قد يكونون فى بلاد لا مسحراتى فيها ولا سكبة، لذا أريدهم أن يتشربوا الكلمتين فى صغرهم. أريدهم أن يحبوا الرجل الغامض كما أحبه أنا وأن ينتظروه ويتساءلوا أيضا عن مظهره وعم يفعل باقى أيام النهار. أريدهم أيضا أن يكونوا على موعد سنوى مع المسحراتى، حتى لو الموعد فى ذاكرتهم فقط.

نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

على موعد مع المسحراتى على موعد مع المسحراتى



GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

GMT 22:12 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

استراتيجة ترمب لمكافحة الإرهاب وتغيرات تكتيكية

GMT 22:05 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الحليب والسلوى

GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt