توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هل كان استعماراً؟

  مصر اليوم -

هل كان استعماراً

بقلم:مأمون فندي

عندما نفكّر في كلمة «الاستعمار» التي سادت في الكتابات العربية خلالَ القرن الماضي، لا بدَّ أن نتوقفَ عند المعنى والدلالات المصاحبة. هذه إضافة تحريرية لمقالي السابق عن «الاستزمان»، حيث قلت إنَّ «الاستعمار التقليدي» هو سيطرة على المكان، بينما «الاستزمان» يمثل هيمنة على الزمان. الكلمة الإنجليزية Colonialism تُترجم عادة إلى «الاستعمار»، لكن هذا اللفظ العربي يحمِل ظلالاً دلالية ملتبسة وتصورات تجعل ما جرى وكأنه أمر إيجابي، ويخلع عن الاستعمار غباء العنف والإهانة لأهل البلاد. ومن هنا نحتاج إلى تحرير وتدقيق ما نستخدمه من ألفاظ لوصف ما يجري وما جرى. فقبل تحرير البلدان، لا بدَّ من تحرير العقل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحرير اللغة.

جذر كلمة «استعمار» يأتي من الفعل عَمَرَ، وهو في اللغة العربية يرتبط بالبناء والحياة والازدهار؛ العمران، العمارة، الإعمار. وبهذا، حين نقول «استعمار»، يتسرب إلى وعينا معنى «العمار»، وكأن ما جرى هو إدخال الحياة إلى أرض خراب، رؤية تقترب من الرواية الصهيونية لفلسطين: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». هذا بالضبط ما سعى إليه الخطاب الكولونيالي منذ البداية؛ أن المحتل جاء ليعمر، لا ليهدم، جاء ليبني لا ليقتلع الناس من أرضهم. والحقيقة أن أدواته الأولى لم تكن المعول ولا البذور، بل تكنولوجيا العنف، التي استُخدمت لفرض السيطرة والهيمنة. ومع ذلك، بيننا حتى اليوم من يتحدث عن احتلال فرنسا لمصر وإطلاق المدافع على الجامع الأزهر بأنه «صدمة الحداثة الأوروبية»، التي منها انطلقت نهضة مصر من خلال المطبعة، وتفسير ما كتب على حجر رشيد. الاحتلال جاء بعلم وعمار.

الوقائع التاريخية تناقض هذه السردية المضللة. لم تكن المجتمعات التي وقعت تحت الاحتلال أرضاً خاوية ولا زماناً عقيماً. مصر مثال حيّ؛ لم تكن أرضاً خراباً قبل الاستعمار بمائة عام أو ألف، بل كانت على مدى آلاف السنين مهد حضارات أنتجت الأهرامات ومعابد أبي سمبل وكوم أمبو وإدفو والكرنك ووادي الملوك. هذه الشواهد قائمة حتى اليوم لتؤكد أن العمران سبق الاحتلال الأوروبي بآلاف السنين. ما فعله الكولونياليون لم يكن إعماراً بل اقتلاعاً، ولم يكن بناءً، بل هدم بنيوي وإعادة تشكيل قسري للثقافة والمجتمع. وبذلك تكون كلمة «الاستعمار» خادعة؛ فهي تمنح، لغوياً، مسحة من الشرعية على فعلٍ هو في جوهره دماراً واستيطاناً وإحلالاً قسرياً وعنفاً مركباً؛ عنف ثقافي يتبعه عنف مباشر، يبرّره في النهاية عنف بنيوي ممتد.

من هنا، يطرح السؤال نفسه؛ ما البدائل اللغوية التي يجب أن يصوغها المثقف العربي؟ كيف نحرر أنفسنا من أسر لغة الغزاة التي تسرّبت إلى وعينا؟ إن إعادة تسمية الأشياء ليست مجرد ترف فكري، بل هي بداية فعل تحرري، لأنها تفتح المجال لتفكيك الرواية الاستعمارية وصياغة سردية محلية بديلة تعكس حقيقة ما جرى. استبدال المصطلحات هو مفتاح تحرر العقل وبداية صناعة خطاب جديد عن الاحتلال والاستيطان والإبادة.

اليوم، أمام أعيننا، تكشف فلسطين منذ عقود، وبوحشية مضاعفة في السنوات الأخيرة، عن بشاعة الاحتلال وبشاعة الإحلال الاستيطاني. نرى رجلاً جاء من بولندا أو نيويورك ليقتلع شجرة زيتون أمام بيت عائلة فلسطينية، ثم يحتل البيت ويطرد ساكنيه ويستولي على البساتين. هل يمكن أن نسمّي هذا «استعماراً» بالمعنى اللغوي الموروث؟ بالطبع لا. هذه ليست عمارة، بل إبادة بطيئة، ليست عمراناً بل خراباً ممنهجاً.

إنَّ الصور القادمة من غزة، التي تبثها كاميرات التلفزيون أو تسجلها هواتف المحمول اليوم تجعل بشاعة الاحتلال محسوسة وملموسة للجميع. لكن ما نراه الآن في فلسطين ليس جديداً؛ فقد عرفته ليبيا والجزائر من قبل، وربما على نطاق أوسع وأعنف، غير أن غياب الكاميرات جعل الذاكرة البصرية للتجربة أضعف. ومع ذلك، فقد أطلقنا على ما جرى هناك أيضاً كلمة «استعمار». فهل ما حدث في الجزائر أو الإبادة الجماعية الإيطالية الفاشية ومعتقل العقيلة في ليبيا، كان إعماراً أم خراباً؟ الجواب واضح؛ لقد كان إبادة منظمة استهدفت البشر والحجر واللغة والذاكرة.

إذن، نحن أمام إشكالية لغوية لا تقل خطورة عن الإشكالية السياسية أو العسكرية. إن قبولنا بمصطلح «الاستعمار» كما هو، فيه قدر من التواطؤ، ربما غير المقصود مع سردية الغزاة. اللغة هنا ليست بريئة؛ فهي إما أن تكون أداة تحرر أو أداة قمع. وعليه، فإن تحرير اللغة هو الخطوة الأولى لتحرير العقل، ومن دون هذا التحرير لا يمكن أن نبني سردية محلية أصيلة تعكس حقيقة تجربتنا مع الاحتلال.

لقد آن الأوان لإعادة النظر في معجمنا السياسي والثقافي. ما يجري في فلسطين ليس «استعماراً» ولا «عماراً»، بل هو استيطان إحلالي عنيف. وما جرى في الجزائر وليبيا لم يكن «استعماراً»، بل إبادة واستعباد وتهجير قسري. اللغة الدقيقة هنا ليست مجرد وصف، بل هي جزء من المعركة نفسها. فإذا استعرنا لغة المحتل، استعرنا معها طريقته في التفكير، وبالتالي قبلنا، من حيث لا نشعر، منطقه في التبرير.

ومن هنا، يمكن القول إن بداية التحرير لا تكون على الأرض فقط، بل تبدأ في الرأس. ومن الرأس تبدأ عملية تحرير اللغة. فاللغة هي بيت المعنى، وإذا بقي هذا البيت محتلاً، فسيظل وعينا أسيراً. إن أول معركة نخوضها هي معركة الكلمات؛ أن نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، أن ننزع عن الاحتلال قناع «الاستعمار» الذي يوحي بالعمار، وأن نكشفه كما هو؛ خراب، وإبادة، واستيطان. حين نحرر اللغة نحرر العقل، وحين نحرر العقل نصوغ سرديتنا المحلية، ومنها يبدأ طريق التحرير الحقيقي.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل كان استعماراً هل كان استعماراً



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt