توقيت القاهرة المحلي 09:37:11 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لماذا فشلنا في التعرف على الآخر؟

  مصر اليوم -

لماذا فشلنا في التعرف على الآخر

بقلم : مأمون فندي

التعرف على الآخر يبدأ من معرفة النفس وتحققها ولا يمكن لمن لا يعرف نفسه أن يتعرف على الآخر المختلف، فبقدر التشويش الحادث في معرفة الذات تكون معرفتنا للآخر مشوهة، وذلك جزء من أزمتنا الراهنة. وبالآخر أعني الآخر القريب داخل الوطن الواحد أو الحضارة الواحدة أو الآخر البعيد من الثقافات الأخرى.
لفت نظري بشكل ترميزي انتشار عمليات «التجميل» في منطقتنا العربية لما له من دلالات أعمق عن فهمنا لأنفسنا وقبولنا لملامحنا دونما الحاجة لـ«التجميل»، وأضع التجميل بين علامتي تنصيص لأنه أمر غير متفق عليه، فإذا كان هذا تجميلاً ففي ذلك اعتراف بأن الذي سبقه كان قبحاً أو أقل جمالاً في أحسن الأحوال، فهل هذه بالفعل نظرتنا إلى أنفسنا ولحضارتنا وعالمنا؟
ظني أن عمليات التجميل هي أوضح ملامح الاستلاب في ثقافتنا، وبالاستلاب أعني أن الثقافة المهيمنة فرضت علينا نموذجاً طاغياً يدخلنا في حالة تمدد الوجه ليناسب القناع لا حالة تفصيل القناع على الوجه إذا كانت هناك رغبة صارخة للبس الأقنعة والتخفي.
الاستلاب درجات وأحوال بداية من تبني العبد لرؤية السيد للنفس وللكون إلى ما هو متعارف عليه بالهيمنة الثقافية.
تجميل الوجوه وتنحيف الأجساد وغيرهما ما هي إلا رمزيات لخضوع لمقاييس جمال قادمة من بعيد، ولكنها رمزيات تخفي خلفها خضوعاً أعمق على مستويات السياسة والثقافة والاجتماع.
المستلب هو إنسان غير مستريح في جلده، أو في لباسه أو مجتمعه ويبحث عن عالم آخر يعيش فيه وثقافة أخرى ينهل منها، رغبة منه للتواؤم مع العالم من حوله.
والاستلاب زماني كما هو مكاني، فمن لا يستطيع الهروب إلى الغرب مثلاً يهرب في الزمن إلى زمان مضى ونوستالجيا قبلية وحنين إلى زمن آخر لا يعرفه ولن يعرفه. ومن هنا يمكن تفسير التطرف على أنه عدم قدرة توافق الفرد مع الواقع نتيجة للاستلاب، فيحاول الهروب إلى زمان إسلامي متخيّل وقديم ليس لأنه يعرفه ولكن لرفضه لواقعه. فهل عمليات التجميل رفض لواقع جمالي غير مقبول عندنا؟ وهل ما يقال عن عمليات التجميل ينسحب على الاجتماع والسياسة، ولماذا لا نلجأ إلى عمليات تجميل في السياسة والاجتماع والثقافة كما نفعل بوجوهنا وواجهاتنا؟
تبني التجميل كمفهوم هو الذي جعل الكثير من دولنا تنفق الكثير من الأموال بهدف تحسين الصورة خصوصاً في الغرب، مع أن إصلاح الأصل يكلفنا أقل من محاولات باهظة لتحسين الصورة. والتكلفة هنا مالية ونفسية؛ إذ إن استمرارها يرسخ لدينا النظرة الدونية لأنفسنا ويرسخ أيضاً فكرة تفوق الآخر البعيد المختلف.
ما شهدناه في حالة التغيرات الاجتماعية الكبرى التي حدثت في المملكة العربية السعودية مثلاً منذ عام 2016 حتى الآن يوفر الكثير داخلياً وخارجياً. هذا النوع من إصلاح الأصل لا محاولات التجميل هو النقلة التي تحتاجها مجتمعاتنا. ومن هنا تبدأ مرحلة التعرف على الآخر من منطلق الندية بعد التأصيل لشكل الذات وجوهرها.
ومع ذلك ما انسحب على السياسة والاجتماع لم ينسحب على الثقافة التي تحتاج إلى عملية فرز صارمة، إذ أصبحت الثقافة ذاتها مجالاً لأطباء تجميل المجتمعات لا تقويمها ودفعها للأمام.
الثقافة بمعناها الواسع والمنتج الثقافي ونتيجة لغياب المعايير أصبحت كما سوق للبضاعة المستعملة. وهذا النوع من الثقافة لا ينتج إنساناً واعياً بذاته وبجذوره الثقافية؛ ينتج وجوهاً تتمدد أنوفها وبقية عضلات الوجه لتناسب القناع لا تفصيل قناع على وجه قائم ولا استغناء عن فكرة القناع ذاتها.
كانت فكرة السوق مثل سوق عكاظ جوهرها الثقافة التي تقف في منتصف الدائرة ويحدث البيع والشراء على الهامش، وحتى البضاعة التي كانت تباع كانت أصلية. أما اليوم فلم تعد الثقافة في المركز ولم تعد البضاعة أصلية؛ إذ سيطر على منتصف الدائرة كل ما هو مغشوش ويمثل الاستلاب الثقافي في أعلى درجاته. أصبح الفالصو في المركز؛ حيث لا سوق لما هو أصيل، أو أن المستهلك لم يعد يفرق بين الأصلي والمغشوش.
لا يمكن لإنسان عنده عجز في ميزان الحرية أن يتعرف على الآخر المختلف، ثقافة وسياسة وعلوماً واقتصاداً. فقط الأحرار يبدعون في فضاء حر. حتى الثقافات المغلقة التي كانت لديها الرغبة في التقدم فصلت بين فضاء الحرية في الإبداع والانغلاق السياسي (الصين مثالاً).
بداية التعرف على الآخر هي وضع مسطرة صارمة لقياس ملامح الذات، فإن لم تتعرف على ذاتك فتأكد أن معرفتك بالآخر محدودة إن لم تكن مشوهة تماماً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا فشلنا في التعرف على الآخر لماذا فشلنا في التعرف على الآخر



GMT 02:28 2024 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

الأهمية المستقبلية لصناعة الغاز

GMT 02:23 2024 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

السعودية قصَّت الشريط... الصين تتأهب

GMT 01:45 2024 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

«أكثر الجيوش أخلاقية»!

GMT 23:17 2024 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

تساؤل وتحذير..!

GMT 23:15 2024 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

شعوب تستحق الحياة

الأميرة رجوة بإطلالة ساحرة في احتفالات اليوبيل الفضي لتولي الملك عبدالله الحكم

عمان ـ مصر اليوم

GMT 20:27 2024 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

محمد صلاح ينقذ حسام حسن من أول هزائمه مع منتخب مصر
  مصر اليوم - محمد صلاح ينقذ حسام حسن من أول هزائمه مع منتخب مصر
  مصر اليوم - أفكار مميزة لديكورات غرف نوم الأطفال حديثي الولادة

GMT 16:29 2024 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

مشاكل النوم أثناء الحمل تنتقل إلى الأطفال
  مصر اليوم - مشاكل النوم أثناء الحمل تنتقل إلى الأطفال

GMT 18:00 2016 الخميس ,01 أيلول / سبتمبر

فوائد أوراق اللبلاب

GMT 04:27 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

المصمّم Jean Patou يطرح مجموعة شتاء 2018 للرجل الأنيق

GMT 15:32 2023 الأربعاء ,16 آب / أغسطس

صدور ترجمة الأصل الإنجليزي لقصة فتى الفضاء

GMT 22:22 2021 الأربعاء ,19 أيار / مايو

أحمد مجدي يشارك جمهوره بـ صورة له

GMT 04:14 2021 الأربعاء ,12 أيار / مايو

دعاء اليوم الثلاثين من شهر رمضان المعظم 2021

GMT 19:56 2021 الأربعاء ,24 آذار/ مارس

بورصة بيروت تغلق على ارتفاع بنسبة 0.68%
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon