توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الأمير وترمب والطيب صالح

  مصر اليوم -

الأمير وترمب والطيب صالح

بقلم:مأمون فندي

ليس دائماً التعليم الجيد أو التنظير المتماسك هو الحل، فأحياناً يأتي أناس بسطاء بعيون صافية، يتوصلون إلى نتائج أرهقت العلماء سنينَ طوالاً. معظم مَن في سني، ومَن رحلوا قبلنا، عاصروا معركة التحديث والتغريب في الأكاديمية الغربية: هل هما متلازمان؟ أم يمكن لأحدهما أن يحدث دون الآخر «التحديث والغربنة».

وكان الحوار ينحاز دوماً إلى الرؤية الغربية التي تقول إنه لا يمكن للتحديث السياسي والاجتماعي أن يحدث دون تغريب؛ بمعنى تبنِّي القيم الغربية، من العلمانية، إلى فصل الدين عن الدولة، وما بينهما.

ثم جاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الرياض، وأعلن للعالم أن التحديث يمكن أن ينبت في بيئة محلية كشجرة أصيلة، دون أن تُسقى بماء التغريب، أو تأتي كشتلة إلى أرض جديدة. فالتربة صالحة، تُسقى من ينبوع محلّي، ينبع من المنظومة القيمية للمجتمع؛ في إشارة إلى تجربة تحديث سعودية الملك سلمان، التي قادها الأمير محمد بن سلمان من خلال «رؤية 2030» التي تنفَّذ بوعي وصرامة. صفّق الحضور بفطرتهم النقية لكلمات ترمب، وكأنهم كانوا شهوداً على معركة ظلت، لعقود طويلة، محل جدل في الأكاديمية الغربية.

معركة كافح فيها علماء السياسة والاجتماع والتنمية من الجنوب العالمي، أو من العالم الثالث، سنينَ طوالاً من أجل إثبات أن التحديث يمكن أن يحدث دون غربنة. وكان مِن بين الأساتذة الذين يدفعون في هذا الاتجاه ممن عاصرتهم: الدكتور علي مزروعي، الكيني الأميركي أستاذ العلوم السياسية بجامعة ميشيغان، وكذلك إدوارد سعيد، وسمير أمين، وفاندانا شيفا، وغيرهم، وقد جاءوا من خلفيات ثقافية مختلفة.

تعبوا كثيراً في محاولة إثبات أن الحداثة، كعملية تقنية وفنية، يمكن أن تحدث دون التشرب بالقيم الغربية، سواء أكانت بروتستانتية أم كاثوليكية أم خليطاً منهما. ولم تترك مقولاتهم وحُججهم إلا رسوماً كالهيروغليفية على صخور الحداثة الغربية.

وجاء ترمب إلى الرياض ليقول الشيء نفسه، لكن قوله كان مسنوداً بقوة الدولة العظمى الوحيدة في النظام العالمي. قال ترمب إن تجربة السعودية تجربة محلية ناجحة كما هي: «صنعتم معجزتكم بأنفسكم، والذين جاءوا بالتدخل الخارجي دمّروا بلداناً إلى جواركم»؛ في إشارة إلى حرب المحافظين الجدد على العراق وخراب البصرة.

قالها ترمب، ولا أظنه كان يقرأ نصاً، بل كان ما يقوله خروجاً على النص. كان يتكلم بعيون صافية، بما قاله أساتذة كبار من العالم الثالث داخل أروقة الأكاديمية الغربية، عن بلادهم التي يعرفونها معرفة حميمية ومحلية، على حد قول عالِم الأنثروبولوجيا كليفورد غيرتز في نظريته عن «المعرفة المحلية (Local Knowledge)».

صفاء عيون ترمب، رجل العقارات والصفقات، كان أقرب إلى فهم أهل البلاد بواقعهم من كثير من قامات الاستشراق. وهذا لا يجعل من ترمب متنبئاً لدعوة الاعتماد على القدرات المحلية لبناء الدولة، فأهل مكة أدرى بشعابها، وأهل الصحراء عيونهم أكثر صفاء؛ فهم قوم يميّزون دوماً بين السراب والماء، حتى في خطبة ترمب نفسها في الرياض.

فالحداثة التي يوطنها الأمير محمد بن سلمان، هي أكثر مما رآه ترمب، إذ هي رؤية محلية أكثر اتساعاً أفقياً ورأسياً، تمزج ما بين الحداثة الغربية والمحلية بتنويعاتها في تلك القارة التي نعرفها بالمملكة العربية السعودية، والتي تتعدّد فيها الثقافات المحلية من الجنوب إلى المنطقة الشرقية، ومن الحجاز والمنطقة الغربية إلى حائل في الشمال، إلى قلب الدولة في نجد. تجربة محمد بن سلمان، تحت قيادة الملك سلمان، تتسع للجميع.

في عام 1966، وبعد نجاح روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، نشر الأديب السوداني الطيب صالح رواية قصيرة لا يعرفها الكثيرون بعنوان «دومة ود حامد»، وهي حكاية قصيرة نفذت إلى قلب حوار الحداثة والتحديث والتغريب، برؤيةٍ تشبه تلك التي فشل في رؤيتها أساتذة كبار في السياسة والاجتماع والأنثروبولوجيا، ونجح فيها ترمب.

جوهر الرواية هو رغبة حكومة السودان التي تتبنى التغريب آيديولوجية في تحديث منطقة «ود حامد»، وأرادت أن تزيل شجرة الدوم التي وُجدت منذ نشأة القرية، كما أرادت أن تُزيل ضريح «ود حامد» الذي يجاور الدومة (التقاليد المحلية) من أجل إقامة مشروع ميكنة للمياه، ومرسى، ومحطة لباخرة تقلّ الناس من شرق النيل إلى غربه (التحديث).

واشتعل النقاش في البرلمان، وتوترت الأوضاع الداخلية - كما هي متوترة في سودان اليوم - من أجل إحلال الجديد مكان القديم. وفي نهاية الرواية يقول أحد شخصياتها: «لن تكون هناك ضرورة لقطع الدومة، ليس ثمة داعٍ لإزالة الضريح... المكان يتسع لكل هذه الأشياء، المكان يتسع للدومة، والضريح، ومكنة المياه، ومحطة الباخرة».

إنَّها حركة تحديث عملاقة وشاملة دشنتها السعودية، وها هي تسير فيها بخطى واثقة، وتنجز في فضائها نقلة نوعية فريدة ماثلة للناظرين.

يبقى أن نقول إنَّ هناك قيماً إنسانية مشتركة بين الشرق والغرب ليست موضع شك أو خلاف؛ لأنها تهدف للصالح العام، وليست محل اعتراض أو خلاف.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأمير وترمب والطيب صالح الأمير وترمب والطيب صالح



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt