توقيت القاهرة المحلي 12:34:13 آخر تحديث
  مصر اليوم -

دماغ آخر الليل

  مصر اليوم -

دماغ آخر الليل

بقلم : داليا شمس

تحاصرنا الأخبار السيئة من كل جانب: وفيات بالملايين، موجات متتالية من الفيروس لا نعرف متى تنتهى، اغتيال معارض لبنانى باستخدام كاتم للصوت، مخفيون قسرا، لقاحات الكورونا الأقل والأكثر فعالية، جسور تشوه مدينة تفقد ملامحها كل يوم بين الهدم والقبح، مواطن يعبر الشارع بمهارة لاعب سيرك يلقى حتفه حين تهاجمه سيارة مكتوب عليها «الحلو حلو ولو صحى من النوم».. القائمة طويلة، وفى المقابل قائمة المعروض لكى نشاهده أيضا طويلة، من خلال قنوات ووسائط ومنصات متعددة، ويكون الحل أحيانا أن نهرب لنعيش، نحاول أن نفرغ دماغنا آخر الليل حتى نغمض أعيننا ونغفو. وهنا أتوقف عند ردتيّ فعل يلجأ إليهما البعض: فئة من المشاهدين تضغط على زر صغير وهى تجلس أمام شاشة التلفاز أو الكمبيوتر لكى تسرع إيقاع كل ما ترى، فتتدافع الصور كتواتر المطر، تسيطر عليها فكرة كسب الوقت واختصاره فى كل شيء، وفئة أخرى تغوص ببطء فى الأفلام والمسلسلات القديمة أو ما شابهها من حكايات بسيطة كى تتخلص من ضغوطات الحياة وتعزل نفسها عن ما يحيط بها.
***
الفئة الأولى من هواة السرعة أدمنوا هذا الإيقاع وصاروا غير قادرين على متابعة مواد التليفزيون والأفلام إلا بهذه الطريقة التى تجعلهم يختصرون مدة مشاهدة إحدى حلقات الدراما فى عشرين دقيقة بدلا من أربعين. فى البداية، كانت تزعجهم سرعة تلاحق الصور ولا يقدرون على فهم الأحداث، ثم تكيف المخ وأعجبتهم فكرة التحكم فى إيقاع المشاهدة والقيام بعدة مهام فى الوقت نفسه. النكات تصلهم فورا ويختصرون المسافات لكى يقفوا فقط عند الأحداث الهامة. صاروا دون أن يدروا جزءا من نظرية الفيلسوف وعالم الاجتماع الألمانى هارتموت روزا حول «التسارع» الذى تشهده المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا والذى قد يدفع العالم باتجاه الهاوية بعد أن ساعده على بلوغ الحداثة قبل قرنين.
تعيش هذه الفئة على سرعة قطار يجرى أو طائرة تحوم، ثم ننتقل مع الفئة الثانية إلى عالم النسيم والربيع والفراشات. نغوص مع هؤلاء فى عالم الأبيض والأسود بسحره وجمالياته الخاصة، عالم يسير فيه البطل والبطلة جنبا إلى جنب فى طريق نظيف بمحاذاة النيل، تحيط بهما أشجار جميز عتيقة متشابكة الأغصان، دون «كبارى» عالقة وأبواق سيارات. يشعر أحدهم بالوحدة أو الشجن فيستغرق فى مشاهدة فيلم «عائلة زيزى» وينفجر فى الضحك عند سماع جمل يعرفها عن غيب أو ينتظر حتى تقول سميحة أيوب وهى فى عز شبابها، قرب نهاية فيلم «شاطئ الغرام»: «خرج بالسلامة بعد ما ضرب سهير بالرصاص!».
شاهد هذه الأفلام أو المسلسلات مئات المرات، وربما أكثر، لكن التكرار هنا هو جزء أساسى من اللعبة، فالناس عادةً يحبون ما هو متوقع، يطمئنهم ذلك وسط عالم كل شيء فيه غير متوقع. التأثير الإيجابى للنوستالجيا والتكرار على المخ لا يضاهى ولا يقاوم، فهو يساعد على التخلص من الضجر والتوتر والإحباط، يشحن بطاريات الجسم ويجعله يشعر بالراحة، فهو أمام مَشاهد تلك الأفلام فى «منطقة آمنة» جربها من قبل، غير مستعصية على الفهم مثل كل ما يحيق به.
***
إعادة مشاهدة الأفلام والمسلسلات القديمة يشبه جلسة سمر مع الأصدقاء، يفصح فيها جميع الأطراف عن ما فى القلب ويستريحون بحكم العِشرة. يأخذهم الحنين الخفيف إلى الماضى لمنطقة رحبة يستطيعون فيها التفكير على مهل والانطلاق نحو المستقبل. نستمع مرارا وتكرارا لأغنية شادية أو ليلى مراد فلا نملّ ونستمتع، بل ونشعر أن العالم لا يزال بخير وأن الصراع مع الشر قديم، وننتظر ربما النهاية السعيدة. وقت مستقطع من النكد السائد فى عالم قائم على التضاد بين الأبيض والأسود دون التباس، هذا هو ما يدفع البعض نحو الحنين لكل ما هو قديم من موضات وأفلام وأغنيات، يحتاج المرء أحيانا إلى الرجوع للوراء قليلا، كلٌ حسب طبيعته وطاقته. عجيبة هى تدابير العقل، وشيقة هى الدراسات التى تتعلق بطرق المشاهدة واستقبال الجمهور للمحتويات المختلفة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دماغ آخر الليل دماغ آخر الليل



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 06:56 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

شهر مناسب لتحديد الأهداف والأولويات

GMT 14:29 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

مؤمن زكريا يتخلّف عن السفر مع بعثة الأهلي

GMT 05:35 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

شوبير يفجر مفاجأة حول انتقال رمضان صبحي إلى ليفربول

GMT 13:45 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

ماكينات الـ ATM التى تعمل بنظام ويندوز XP يمكن اختراقها بسهولة

GMT 02:15 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على سعر الدواجن في الأسواق المصرية الجمعة

GMT 17:17 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الوطني يصل السعودية لأداء مناسك العمرة

GMT 16:08 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتشاف تابوت يحوي مومياء تنتمي للعصر اليوناني الروماني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon