توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الوابور رايح السودان

  مصر اليوم -

الوابور رايح السودان

بقلم : داليا شمس

موسم الفيضان. درجة رطوبة الجو عالية كمثل هذه الأيام، ويطلق عليها «زمتة النيل« بالعامية المصرية الفصيحة، فلديها توصيف دقيق لكل ما نمر به وخاصة أحوال الطقس. البوسطة السودانية أو الباخرة التى تقطع الطريق أسبوعيا بين وادى حلفا وأسوان وصلت إلى مرساها أمام معبدأبو سمبل على الضفة الغربية لبحيرة ناصر، ولم تجد صعوبة فى الإبحار لارتفاع مستوى المياه. لسنوات طوال كانت المركب هى الرباط الوحيد بين الشمال والجنوب حاملة الرسائل والمؤن والبشر والحيوانات، لذا سميت بالبوسطة وأحيانا الوابور. 

لم يكن هناك طريق برى، إذ يرجع تاريخ افتتاح هذا الأخير بين قسطل ووادى حلفا لعام 2014 فقط، وصارت الحافلات تقطع المسافة فى سبع ساعات، بدلا من الباخرة التى كانت تستغرق يوما أو ستة عشر ساعة على الأقل من ميناء السد العالى حتى وادى حلفا. لكن هذا لا يمنع أن الباخرة وما عليها كانت شاهدة على العصر وعلى أحوال النيل وأهله وتنقلاتهم منذ بناء خزان أسوان عام 1902، ثم التعلية الأولى عام 1912، ثم التعلية الثانية عام 1934، ثم وضع حجر أساس السد العالى فى يناير 1960 إلى أن تم إنشاء المشروع، وفى كل مرة كانت تغرق أراضى أهل النوبة ويضطرون إلى الصعود للجبال وبناء قرى جديدة وأحيانا إلى تغيير نشاطهم من الزراعة إلى التجارة، ثم كانت إجراءات نزع الملكية والتهجير مع الانتهاء من مشروع السد العالى. وكان عليهم وقتها دمج كل الأندية والجمعيات والهيئات فى كيان واحد وهو «النادى النوبى العام« ليكون لهم رأى موحد معبر عن آمالهم.
***
ظهرت أبيات الشعر التى تغنت من زمان بالمركب ومن عليها، ووصف الكتاب وأهل المكان أهمية ساعى البريد الذى كان ينتظره الجميع لأخذ خطابتهم واستلام الطرود، فكان المشهد مهيبا، وقال فيه الشاعر الراحل عبدالله محمد خير: « وابور البحر ما عارفة.. شايلة أعز زول جواها، ما هماها حالى البيا، مادام نوره وضواها. لوفات المحطة جمله لابد القرير يغشاها، قوم يوم الثلاتا إندلى، بى تالا الرصيف تلقاها«. 

الصور القديمة كانت تشير أن للبوسطة السودانية صندلان من اليمين ومن اليسار، وأنها كانت تسير قديما بالفحم، لكن لما غرقت الباخرة «تنجور« سنة 1946، استبدلت بعطارد التى كانت تسير بالمازوت وتتبع سكك حديد السودان. الكل كان ينتظر التحويلات المالية التى تحملها البوسطة السودانية، وكذا البضائع التجارية التى يتم تبادلها من ميناء إلى آخر، إذ كانت تتوقف فى عنيبة وقصر إبريم وأدندان وأبوسمبل وغيرها من المدن الصغيرة والقرى التى تنشط حياتها مع وصول المركب، فتعثر مثلا على دكان تاجر يونانى عجوز يأخذ منهم البضاعة ويسوقها من خلال محله الصغير فى عنيبة حيث كان يقيم بعض المبعدين لأسباب سياسية فى زمن عبدالناصر، وكانوا يعيشون إلى جوار المدرسة الثانوية مع كلابهم واثنين من الحراس، يتنزهون على النيل.. والكلاب تحميهم من الذئاب ليلا فى هذه القرية التى تتبع مركز نصر النوبة، فى أقصى جنوب مصر.

كان يأتى أيضا إلى عنيبة تجار اللب والمواشى والحمير والبلح وتجار بعض البضائع إنجليزية الصنع فى الخمسينات والستينات: سجائر ماركة «كرافن ايه« فى علب من الصفيح، بطاطين مرسوم عليها خروفين كدليل على جودة الصوف، أمواس حلاقة، أجهزة راديو،... الأبناء يقفون على الشاطئ لتعلم مبادئ التجارة وأسرارها من خلال المراقبة ومتابعة المفاوضات أثناء البيع والشراء. 
***
عالم كامل، بقيت بعض آثاره، لكن لم يعد كما كان بالطبع، فكل شيء يتغير حتى لو ظل لدينا فى البيت الراديو القديم الذى اشتريناه من هؤلاء التجار ولا يزال يعمل، وهو ما ذكرنى بحكايات «البوسطة السودانية« فى موسم «زمتة النيل«، وشكرت الله على نعمة الفيضان والخيرات التى تأتينا من الجنوب. ومع الحكايات تذكرت أيضا رواية «الشمندورة« للكاتب محمد خليل قاسم، الموجودة أيضا لدينا فى البيت على الرف، والتى صنفها النقاد كأول رواية نوبية تتحدث عن مأساة الترحيل التى عاشها أهل النوبة. تأخذنا الرواية فى رحلة إلى دروب قرية غارقة وإلى مجمل العادات والتقاليد والحياة فى حضن النهر، وذلك على لسان طفل لم يبلغ العاشرة، تحول أبوه من الزراعة إلى التجارة بعد تعلية خزان أسوان الثانية، تماما كعائلة الكاتب. حكايات الوابور والشمندورة نشتم معها رائحة شجر السنط والحنة ونبات الحلفا.

نقلًا عن الشروق القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الوابور رايح السودان الوابور رايح السودان



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt