توقيت القاهرة المحلي 02:26:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى (2)

  مصر اليوم -

مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى 2

بقلم - د. طه عبد العليم

ارتبط الحكم الاستعمارى فى مصر ـ كما فى غيرها من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة- باقتصاد يعتمد على إنتاج عدد محدود من المنتجات الأولية، وارتبطت الدعوة الوطنية إلى التصنيع بالرغبة فى تقليص الاعتماد على استيراد السلع المصنعة من البلدان الاستعمارية, ولذلك كانت عملية التصنيع فى الغالب جزءا من حركة وطنية أوسع نطاقا. وقد استهدف بنك مصر بقيادة طلعت حرب- مهندس سياسته للتصنيع- التقليل من اعتماد مصر اقتصاديا على انتاج وتصدير القطن طويل التيلة بإقامة قطاع صناعى رأسمالى وطنى كبير وحديث، فبدأت مصر محاولة طموحا للتصنيع وخاصة فى صناعات الغزل والنسيج بقيادة أول بنك تجارى اضطلع بتمويله وإدارته بالكامل مواطنون مصريون.

وأسجل، أولا، أنه لا يمكن لأى تقويم لتأسيس وتطوير بنك مصر تجاهل دور طلعت حرب, الذى لولاه لما تأسس البنك فى عام 1920. ويتطلب هذا تحديد القوى السياسية والاجتماعية التى كونت مجموعة بنك مصر، وفى مقدمتها أعيان الريف من كبار ملاك الأرض. والأمر أنه بتأسيس بنك مصر فى عام 1920 بلغت القوى الاجتماعية والسياسية التى تبلورت خلال القرن 19 ذروتها، حيث كان لاندماج مصر فى السوق العالمية بفضل زراعة القطن طويل التيلة، نتائج أهمها ما تحقق من تراكم رأسمالى كبير لدى شريحة من أعيان الريف. وقد أكمل الاحتلال البريطانى العملية التى بدأها محمد على باشا بتحويل نظام رى الحياض إلى رى دائم، بتنفيذ مشروعات رى مثل توسيع القناطر الخيرية وبناء خزان أسوان وقناطر أسيوط. وسعت الإدارة الاستعمارية لإرضاء أهم عنصر اجتماعى فى الريف، وهم كبار الملاك الوطنيين. ولم يعد الأمر مقصورا الآن على إمكان زراعة القطن فى أنحاء دلتا النيل وجنوبا حتى شمالى مديرية أسيوط، بل صار من الممكن أيضاً زراعته أكثر من موسم، وبجانب التوسع فى إنتاج القطن أدى تحسين نظام الرى إلى زيادة ملحوظة فى إنتاجية القطن وخاصة فى أراضى أعيان الريف وكبار الملاك. وثانيا، أن فترة حكم محمد على شهدت تغيرات مهمة فى البنية الاجتماعية المصرية، وهى التغيرات التى كان لها مضاعفات مهمة بالنسبة لتطور النزعة الوطنية الاقتصادية، وتأسيس بنك مصر فى أوائل القرن العشرين. وفى المجلس العالى، الذى شكله محمد على عام 1828، يتضح النفوذ المتزايد لأعيان الريف، حيث ضم المجلس ممثلين لعائلات أعيان الريف، وأتاح إنشاء مجلس شورى النواب عام 1866 وجود بؤرة للتعبير عن المصالح الطبقية لأعيان الريف أن ثمانية وخمسين من بين المندوبين الريفيين كانوا مسجلين على أنهم عمد، وكان المندوبون الإثنا عشر الباقون كلهم تقريباً ينتمون إلى عائلات أعيان معروفة فى مناطقهم، مثل أحمد أفندى أباظة. وساعد الاندماج بين الأتراك- الشركس وأعيان الريف على تقوية البورجوازية الريفية الناشئة فى مصر، حيث أصبح الوعى الطبقى يتواجد فى طبقة اجتماعية أكثر قوة. زاد المندوبون من سلطتهم الاقتصادية والسياسية, وبدأوا يحملون لقبى بك وباشا الأعلى من حيث المكانة. وعلى حين أن نسبة الأعيان الذين كانوا يحملون لقب بك عام 1866 كانت 4 فى المائة فقط فإنها قد وصلت إلى 66 فى المائة عام 1914، وبينما لم يحمل أى مندوب ريفى لقب باشا قبل عام 1881، كان 11 من المندوبين الريفيين يحملون هذا اللقب بحلول عام 1914. وأدى امتلاك كثير من عائلات أعيان الريف لمساحات كبيرة من الأرض، إلى جانب ألقاب الوجاهة الاجتماعية، إلى تجانس طبقة كبار الملاك فى مصر، إلى الحد الذى يجعل من الممكن الحديث عن بورجوازية زراعية واعية مصالحها السياسية والاقتصادية. وثالثا، أن التوسع فى زراعة القطن الطويل التيلة فى مصر قد أتاح لأعيان الريف إمكانية أكبر لتحقيق التراكم الرأسمالى. وهكذا، بدلاً من أن يقوم التصنيع المصرى على ما يسمى بالطبقة الوسطى الجديدة، فإنه قام بمساندة من طبقة كانت تمثل فى القرن التاسع عشر حجر الزاوية للمجتمع ما قبل الرأسمالى. وعندما تم بيع أراضى الدولة لتصفية الديون الأجنبية تبين أن ممتلكات الذوات (الأتراك الشركس) كانت أكبر من ممتلكات الأعيان، حتى زاد الأعيان من ممتلكاتهم بصورة كبيرة عقب الحكم الاستعمارى البريطانى، وكانت الملكية شرطاً أساسياً للصعود السياسى على المستوى الوطنى. وقد برز أعيان الريف بعد ذلك فى الحركة الوطنية المصرية وفى مساندة بنك مصر، وكانت عائلة شعراوى من أقوى عائلات الأعيان التى استثمرت فى مجموعة شركات بنك مصر، كما ساندت بنك مصرى عائلات البدو فى مصر العليا، مثل عائلة لملوم بمديرية المنيا، وعائلة الباسل بالفيوم.

ورابعا، أن الفترة فيما بين عامى 1882 و 1920 كانت فترة تغيير اجتماعى عميق، وشهدت نضج فكرة إنشاء بنك وطنى يضطلع المصريون بتمويله وإدارته، لكى يقدم القروض ويرعى المشروعات الصناعية. كما تبين أن تخصص مصر كمزرعة للقطن الخام قد ترتب عليه تبادل غير متكافئ للقطن الخام الرخيص نسبياً بالمنسوجات القطنية وغيرها من السلع المصنعة. وفى هذا السياق، كتب أحمد لطفى السيد مقالا بعنوان الحالة الحاضرة, نشره فى 18 مايو 1908 يقول: إننى أشعر أن امتناع المصريين عن محاكاة الأجانب فى فتح البنوك وتكوين الشركات الأجنبية يبتعد بهم عن تحقيق الاستقلال الحقيقى، وأن أزمة مصر المالية قد نجمت عن الشركات الأجنبية التى كان رأسمالها فى جانبه الأكبر يتسم بطابع المضاربة، ولو كان لدى أهل البلاد بنوك وطنية لما كان بمقدور الشركات أن تهزأ بحقوق المساهمين، ولما امتدت الأزمة (1907) حتى الآن. وكان مدهشاً أن أكثر من 27 فى المائة من إجمالى رأس مال بنك مصر قد جاء من مجموعة من كبار ملاك الأرض فى مديرية المنيا، وهى المجموعة التى التفت حول طلعت حرب، الذى امتلك عزبة أو مزرعة هناك فضلاً عن أنشطته التجارية.

ومن المفارقات أن كل العوامل الرئيسية التى لعبت, فى وقت ما الدور الأساسى فى تشجيع التصنيع المصرى هى التى قادت إلى مأزق مشروع التصنيع الرأسمالى الوطنى الذى وفرت ثورة 1919 قوة الدفع الوطنية اللازمة لانطلاقه. وهو ما يستحق مقالا لاحقا.

نقلا عن الاهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى 2 مأزق التصنيع الرأسمالى الوطنى 2



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 18:31 2020 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

آندي روبرتسون يخوض لقائه الـ150 مع ليفربول أمام نيوكاسل

GMT 06:47 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز بعد نهاية الجولة الـ 13

GMT 02:10 2020 الخميس ,10 كانون الأول / ديسمبر

7 أسباب تؤدي لجفاف البشرة أبرزهم الطقس والتقدم في العمر

GMT 22:29 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

أحمد موسى يعلق على خروج الزمالك من كأس مصر

GMT 11:02 2020 الجمعة ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرّف على أعراض التهاب الحلق وأسباب الخلط بينه وبين كورونا

GMT 03:10 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

زيادة في الطلب على العقارات بالمناطق الساحلية المصرية

GMT 22:14 2020 الجمعة ,18 أيلول / سبتمبر

بورصة بيروت تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,21 إبريل / نيسان

خسائر خام برنت تتفاقم إلى 24% في هذه اللحظات

GMT 17:36 2020 الأحد ,12 إبريل / نيسان

الصين تعلن تسجيل 99 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 12:34 2020 الأربعاء ,08 إبريل / نيسان

شنط ماركات رجالية لم تعد حكرا على النساء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon