توقيت القاهرة المحلي 09:57:50 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الزائرة

  مصر اليوم -

الزائرة

بقلم : نيفين مسعد

 كان الهدوء تاما فى المنزل حتى أوشكت أن أسمع صوت أنفاسى، لا أحد معى وكأنى فى خلوة تامة، لا أصوات تنبعث من الخارج على الأقل حتى الآن، أهملنى الكواء وحارس العقار فأمنت طرقاتهما ولو مؤقتا. هذا إذن جو مثالى للاسترخاء أو الكتابة أو حتى الشرود، وتلك مزايا ثمينة لا يقدرها إلا من يكتوى بصخب القاهرة وضوضائها. أجلت مكالماتى المتأخرة وتفرغت للاشيء، فالخلوة لا حِس فيها ولا خبر وكل شيء من الداخل وإليه. نعم الوحدة قاتلة هذا صحيح لكن لا ضير منها أحيانا ولا بأس من الإنصات لأصوات من يحجب الضجيج أصواتهم. قبل عام بالتمام والكمال حضرتُ مع حفيدتى فى المهجر درسا كانت تدربهم فيه المُدرسة الشابة على الاستماع للطبيعة الساحرة، طَلَبَت منهم المُدرسة أن يصمتوا لخمس دقائق ويعطوا آذانهم لصوت العصافير والمياه والهواء واهتزاز العُشب الأخضر. بطبيعة الحال لم يُعجب الأطفال هذا الفرمان المفاجئ الذى يحرمهم من الشقاوة والثرثرة، وفشلت المُدرسة فعلا فى السيطرة على العفريت چون، لكن بالتدريج سيتعلم چون كما سيتعلم زملاؤه أيضا أنهم ليسوا وحدهم فى هذه الدنيا وأن دقائق الصمت تتيح للمخلوقات الأخرى أن تناجيهم وتهمس لهم.

قطع حبل الصمت صوتُ غريب جاءنى من الصالة، وللوهلة الأولى كذّبت أذنّى، تكرر الصوت وبدا كما لو أن أحدا يعبث بمجموعة من الأوراق، فهل تسلل لص منتهزا فرصة وجودى وحيدة فى المنزل؟ على الرغم من أن هذا الاحتمال أصبح واردا مع انتشار حوادث السرقة بين الأهل والأصحاب إلا أننى استبعدته على الفور، فاللصوص لا يعبثون بالأوراق ولا يتسكعون فى صالات المنازل. تكرر الصوت فهاجمنى خاطر مفزع من أن يكون فأر ضال قد تسرب إلى الشقة، ولم لا أولم يحدث هذا مع أحد الجيران قبل شهرين؟ ذهب الاسترخاء إلى غير رجعة، تذكرتُ العظيم فؤاد المهندس فى مسرحية أنا وهو وهى حين تشبث ببندقية الصيد ليقنص الفأر المزعوم، أخذ يطلق صيحة تشبه صيحة طرزان حتى يرهب الفأر وراح ينقل خطواته المرتعشة فى اتجاه الغرفة المغلقة، حتى إذا هو دلف إلى الداخل أغلقت عليه شويكار الغرفة بالمفتاح وتمتعت بنوم هادئ على فراشه. نعم تذكرتُ تفاصيل المشهد جيدا جدا لكن لا توجد قوة على الأرض تدفعنى لمطاردة فأر. قلتُ لنفسى، الآن سوف يختبئ هذا الفأر أو يعود أدراجه من حيث جاء أو ربما تأتينى نجدة من الخارج.. ممممممم الآن فقط تدركين قيمة وجود الناس حولك وتزهدين فى صمت الطبيعة الساحرة؟ رددتٌ بأن هذا ليس وقت الفلسفة لكنه وقت العمل، فما العمل؟

دق جرس الباب فأصبح لابد مما ليس منه بد، بعد ثوان قضيتها فى التردد بين أن أجيب الطارق أو أدعه ينصرف إلى حال سبيله قررت أن أفتح الباب. تحركت ببطء متوجسة لا أعرف من أى جهة يأتينى الخصم، ثم حانت منى التفاتة إلى الأريكة أسفل النافذة فوجدتها هناك، معقول هذه هى أنتِ؟ هل أنتِ من كنتِ تصدرين هذا الصوت المبهم الخفيض؟ هل أنتِ من خطفَت تركيزى واقتحَمت خلوتى وتلاعبَت بخواطري؟ كانت حمامة من حمام البيوت تقف فوق الأريكة والأرجح أنها سقطت عليها، بدا لونها البنى القريب للون قماش الأنتريه كأنه نقش بارز فيه، وبدا جناحاها المطويان فى ترقب كأنهما يكسران دون تعمد حدة اللون البنى ببعضٍ من الريش الأبيض والرمادى. أفزع قدومى الزائرة الوديعة فطارت وارتطمت بزجاج النافذة ثم هوت مجددا على الأريكة، رأسها يتحرك فى كل اتجاه، تبحث عن مخرج ولا تبصره.. نست أنها دخلت من هذه الفُرجَة الصغيرة فى النافذة يتجدد عبرها هواء البهو كالمعتاد. ماذا أصنع لكِ أيتها الحبيبة؟ قولى لى بماذا أُضَيفُك.. فتافيت الخبز جاهزة فهل تقبلينها؟ أنٌى لى أن أُهدِئ من روعك وكيف أشرح لك أن البيت بيتك وأنى لا أريد بكِ سوءا؟ دق الجرس مجددا فزاد ارتباكها، ألا لعنة الله على هذا الطارق، لم أعره التفاتا.

لا تجربة ناجحة لى فى رعاية الطيور، فمنذ أن مات أحد عصفورّى الكناريا اللذين اشتريتهما وأنا زوجة حديثة أطلقتُ العصفور الآخر إلى حال سبيله ولم أقتنِ بعدها طيورا قط. أنتِ أيضا أيتها الحبيبة سوف أطلق سراحك، سأعيدُك إلى السماء والشمس وأسراب الطيور، لكن هل أنا أعيدُك فعلا إلى الحرية أم أرُدك إلى القفص؟ أعرف الإجابة، وأعرف أيضا أن أيامك معدودات ككل حمام البيوت لكن قولى لى أين المفر فعندى أيضا لا أمل فى المستقبل؟ لا.. لن أكرر مأساة عصفور الكناريا.. لن أجلد ذاتى مرتين، اقتربتُ ببطء من الحمامة لا أكاد ألامس الأرض كى لا أزيدها جزعا فتراجعَت للخلف والتصقَت بظهر الأريكة، اقتربتُ منها.. اقتربتُ أكثر.. التقطتُها بحرص ووضعتُها على وسادة صغيرة وللعجب أنها استكانت. فتحتُ النافذة على مصراعيها ورمقتُ الزائرة المفاجئة بنظرة أخيرة قبل أن أسلمها للفضاء الواسع.

لم يكن على البال أبدا هذا السيناريو الصباحى ليوم هادئ ومناسب جدا لأخلو لنفسى وأُسمِعها صوت مخلوقات الله كما فعلت الُمدَرِسة مع تلاميذها الصغار فى هذا البلد البعيد من بلدان المهجر. لكن عجبا لى فلقد كانت الحمامة فى بيتى وملك يدى ومع ذلك لم أسمع ما تقول، لم أسمع؟ لا إنها لم تتكلم، لم تتكلم لأنها ذُعِرت.. وربما لأنها مريضة.. أو لأننى لم أعطها فرصة، وربما لكل هذا معا. رحتُ أسوى الأريكة علنى أخرج من الموقف برمته.. وسط اللون البنى كانت هناك بقعة خضراء ندية، تحسستُها فعلقت بأصابعى.. تفاءلتُ بها كثيرا.. فها هى الزائرة الحبيبة تأبى أن تغادرنى إلا بعد أن تترك لى تذكارا منها، تترك تذكارا يقولون عنه فى أمثالنا الشعبية إن من يجده تتجدد كسوته، فهل تتجدد كسوة الأريكة؟ فى حدود الأمد المنظور لا نية عندى لإعادة تنجيد الأنتريه.

نقلاً عن الشروق الفاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الزائرة الزائرة



GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

GMT 22:12 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

استراتيجة ترمب لمكافحة الإرهاب وتغيرات تكتيكية

GMT 22:05 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الحليب والسلوى

GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt