توقيت القاهرة المحلي 12:01:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»

  مصر اليوم -

أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»

بقلم:هدى الحسيني

في خطوة قد تُغيِّر قواعد التجارة الإقليمية، يشق مشروع «السكك الحديدية العابرة لأفغانستان» طريقه بثبات ليُعيد رسم خريطة النفوذ والربط الاقتصادي في قلب آسيا. المشروع الذي يربط أوزبكستان، الدولة الحبيسة في آسيا الوسطى، بالمواني الباكستانية على بحر العرب عبر الأراضي الأفغانية، ليس مجرد خط نقل، بل هو استراتيجية جيوسياسية متكاملة، تحمل وعوداً ومخاطر لجميع الأطراف المعنية.

تسعى أوزبكستان من خلال هذا المشروع إلى التخلص من «جغرافيا الحصار»، بعدما ظلَّت تعتمد لعقود على طرق عبور تمر عبر روسيا وبحر قزوين. اليوم، تنفتح أمامها فرصة للوصول المباشر إلى موانٍ باكستانية، مثل كراتشي وغوادَر، ما يمنحها منفذاً على البحار الدافئة، ويُعزز تنافسيتها التجارية. هذا المسار الجديد يختصر المسافات، ويُقلل التكاليف، ويفتح نوافذ تصدير جديدة نحو أسواق الخليج وأفريقيا وجنوب آسيا.

يمتد المشروع عبر مسارين رئيسيين: الأول يبدأ من مدينة مزار شريف في الشمال، مروراً بهرات وقندهار حتى نقطة العبور في تشامان على الحدود الباكستانية، وهو ما يُعرف بالممر الغربي. أما الثاني، فيسلك طريقاً أقرب إلى العاصمة كابل، من ترميز على الحدود الأوزبكية، مروراً بنيباباد ولوغر وصولاً إلى خرلاشي، وهو ما يُعرف بالممر الشرقي. المفاضلة بين المسارين لا تخضع فقط للعوامل الجغرافية، بل تتداخل فيها اعتبارات سياسية، وأمنية، واقتصادية دقيقة. فمن ناحية، يُفضّل المسار الأقصر إلى المواني من حيث التكاليف والسرعة، لكن من ناحية أخرى، تؤثر طبيعة التضاريس، ومدى استقرار المناطق، ومستوى التحكم الأمني على قرار الاختيار النهائي.

في هذا السياق، تلعب أفغانستان دوراً محورياً، ليس بحكم موقعها فقط، بل بسبب تحوُّلها من دولة عبور هامشية إلى عقدة مركزية في شبكة الربط بين الشمال والجنوب. وعلى الرغم من عدم الاعتراف الدولي بحكومة «طالبان» (مؤخراً اعترفت روسيا، العدو اللدود، بـ«طالبان»)، فإن الأخيرة نجحت في توظيف المشروع بوصفه أداة نفوذ، وسلعة تفاوضية تفرض من خلالها واقعاً لا يمكن تجاهله. فهي تتيح مرور الشحنات مقابل رسوم عبور وإيجارات واستثمارات، وتُشارك في التنسيق الأمني مع الدول المعنية، ما يمنحها شرعية غير رسمية وشبكة علاقات عملية تتجاوز العزلة الدبلوماسية.

لكن هذا الدور يبقى هشّاً بطبيعته، فنجاح «طالبان» في تحويل خط السكة إلى مصدر دخل واستقرار يعتمد على قدرتها في تأمين المناطق التي يمر بها، وعلى ضمان عدم ظهور بدائل أخرى تتفادى الأراضي الأفغانية، كخطوط تمر عبر إيران أو الصين. إن أي اهتزاز في الأمن، أو أي توتر سياسي، كفيل بأن يفقد أفغانستان موقعها بصفتها ممراً إجبارياً.

في المقابل، ترى أوزبكستان في هذا المشروع فرصة ذهبية للخروج من عزلتها الجغرافية، فقد تبنَّت طشقند خلال السنوات الأخيرة سياسة تنويع مساراتها التجارية وعدم الارتهان لدولة واحدة. وهي تسعى إلى تطوير دورها وسيط نقل وتخزين وتخليص جمركي، مما يدر عليها عائدات من الخدمات اللوجيستية. كما تعمل على جذب التمويل الأجنبي لبناء مناطق صناعية عند تقاطعات النقل، وتحويل الجغرافيا إلى مصدر عملة صعبة. غير أن هذه الاستراتيجية لا تخلو من المخاطر، إذ إن أي اضطراب أمني في أفغانستان قد يعطّل هذا الطموح.

أما روسيا، فتتعامل مع المشروع باعتباره مخرجاً استراتيجياً من عزلتها المفروضة بعد غزو أوكرانيا. فمع تضييق المنافذ الأوروبية، أصبح على موسكو أن تُعيد توجيه صادراتها نحو الجنوب. من خلال دعم هذا المشروع، تأمل في تجاوز الرقابة الغربية على التجارة البحرية، وتوسيع شبكتها البرية عبر آسيا الوسطى وباكستان. إضافة إلى ذلك، ترى روسيا في فرض مقياس السكك الحديدية الذي تعتمده، والمعروف باسم «1520 ملم»، أداة لتعزيز نفوذها الفني والبنى التحتية في المنطقة.

وهنا تحديداً، تظهر أهمية مفهوم «مقياس السكة»، وهو ببساطة عرض قضيبَي السكك الحديدية. المقياس المستخدم في معظم دول الغرب والصين هو (1435 ملم)، ويُعرف بالمقياس القياسي العالمي. في المقابل، تعتمد روسيا ودول آسيا الوسطى، مثل أوزبكستان وكازاخستان، المقياس الأعرض (1520 ملم). الاختلاف بين هذين المقياسين يعني أن القطارات لا يمكن أن تتابع سيرها عند الحدود من دون تغيير نظام العجلات أو نقل البضائع من قطار إلى آخر، مما يُسبب تأخيراً وتكلفة إضافية. لذا فإن اختيار أفغانستان للعمل بالمقياس الروسي ليس مجرد قرار تقني، بل هو اختيار جيوسياسي يُقحمها ضمن دائرة النفوذ الروسي، ويصعِّب اندماجها مع مسارات تديرها الصين أو إيران أو الدول الغربية.

بالنسبة إلى باكستان، يُمثل المشروع فرصة لتحويل موقعها من مجرد دولة حدودية إلى عقدة ربط تجاري بين آسيا الوسطى والعالم. فمع وصول البضائع إلى موانيها، تكتسب كراتشي وغوادر أهمية مضاعفة في سلاسل الإمداد الإقليمية، وتُحقق الدولة مكاسب مالية من الرسوم وخدمات المواني. كما تسعى إسلام آباد، من خلال هذا الربط، إلى تعزيز موقعها في وجه مشروعات هندية أو إيرانية قد تستهدف الأسواق نفسها، وهو ما يُعيد تفعيل التنافس الإقليمي عبر شبكات النقل والبنية التحتية.

ومع كل هذه الأدوار المتشابكة، يظل مستقبل «السكك الحديدية العابرة لأفغانستان» مرهوناً بثلاثة عوامل: الاستقرار الأمني داخل أفغانستان، والتفاهم السياسي بين الدول المشاركة، واستمرارية التمويل والاستثمار في البنية التحتية. فالطموحات كبيرة، لكن الطريق لا يزال مملوءاً بالعوائق، والربح لن يكون مضموناً إلا لمن يثبت قدرته على حماية خط التجارة الجديد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية» أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»



GMT 13:59 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الإسلام السياسي

GMT 13:56 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

قمة مصرية إسرائيلية

GMT 13:51 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

الانتخابات التى عرفناها

GMT 13:48 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

السلاح لا يخفي صوت الضحايا إلى الأبد

GMT 13:46 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

زمن الاستقطاب العميق

GMT 13:37 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

محمد منصور ودراما سيزيف المصري

GMT 12:18 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

«يونان».. الحياة تقف على باب الموت!!

GMT 12:15 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

حلم الدكتور ربيع!

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 17:19 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

لافروف يتهم أوروبا بعرقلة جهود السلام في أوكرانيا
  مصر اليوم - لافروف يتهم أوروبا بعرقلة جهود السلام في أوكرانيا

GMT 11:25 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

شمس البارودي تهاجم الشللية في الوسط الفني بسبب نجلها
  مصر اليوم - شمس البارودي تهاجم الشللية في الوسط الفني بسبب نجلها

GMT 06:13 2025 الثلاثاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الثلاثاء 02 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 04:43 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تدعم حظر الهواتف المحمولة في المدارس الابتدائية

GMT 02:17 2020 الأحد ,26 تموز / يوليو

فيسبوك تقضي على Zoom بعد إطلاق App Lock

GMT 19:18 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حريق محدود بـ كابل كهرباء في الطالبية بمحافظة الجيزة

GMT 17:32 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

22 لاعبًا في قائمة الزمالك لمواجهة الإسماعيلي في الدوري

GMT 14:01 2025 السبت ,01 شباط / فبراير

مقتل 18 جندياً في باكستان على يد مسلحين

GMT 10:28 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

إنفانتينو يقرب السعودية من تنظيم كأس العالم 2034

GMT 20:45 2022 السبت ,04 حزيران / يونيو

انطلاق كأس العالم للرماية الأحد المقبل

GMT 23:18 2021 الأربعاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

أبرز 5 سيارات كورية طرحت في السوق المصري لعام 2021

GMT 09:05 2021 الأربعاء ,10 آذار/ مارس

طريقة عمل الروستو

GMT 10:12 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

والدة طفلة التعرية ترفع قضية إثبات نسب جديدة

GMT 06:22 2020 الجمعة ,02 تشرين الأول / أكتوبر

السيسى يصدق على تعديل بعض أحكام قانون السجل التجارى
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt