توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حكاية عشق

  مصر اليوم -

حكاية عشق

بقلم: جميل مطر

نتدرب خلال شهور الربيع وأوائل الصيف استعدادًا للمشاركة فى احتفالات مناسبة كانت ترقى فى أذهان بعض الأهل وأطقم التدريس والتلاميذ إلى مرتبة التقديس. المناسبة ليست كالمناسبات المعتادة مثل عيد جلوس جلالة الملك وعيد ميلاده وطلوع المحمل. ملابسنا لهذه المناسبة تختلف فهى بألوان تميل إلى الصفار والحمرة، بينما كانت فى المناسبات الأخرى بيضاء ناصعة. كذلك اختلفت الرقصات التعبيرية التى كنا نتدرب لتأديتها فى تلك المناسبة. الألحان تميل إلى ألحان الصلوات فى معابد عهود الفراعنة كما تخيلها مؤلفوها وعازفوها الذين ارتدوا لهذه المناسبة أزياء مصرية قديمة وانتحلوا صنادل جلدية. الألحان والرقصات والملابس والأطفال والرايات على الأرصفة ومن الشبابيك والشرفات كلها توحى بأجواء الخشوع مختلطة بمظاهر الفرحة والرضا.
• • •
هناك عند النهر فى منطقة الاحتفال، لعلها غير بعيدة عما عرفناه عندما كبرنا بمنطقة الروضة، طافت على سطح مياه النهر عشرات المراكب من كل نوع، من الفلوكات الصغيرة إلى اليخوت الفاخرة وكلها مزدانة بأعلام مصر الخضراء ورايات المعابد الزرقاء ولافتات تحى النهر بلغاته التى يفهمها، وأقصد الهيروغرافية واليونانية واللاتينية والعربية. تتوسط هذا الأسطول المتنوع من عازفى الموسيقى والراقصات والبحارة مركب فاخرة بستائر وأشرعة ألوانها تناسقت وانسجمت وفوق أكبر أشرعتها تاج مينا موحد القطرين دليلًا مؤكدًا وجود جلالة الملك فاروق والملكة فريدة وجميع بناتهما داخله. ومن فوق كل القوارب وعلى الشاطئين وفى أحد أقرب الميادين إلى الشاطئ يصطف الأطفال وتلاميذ المدارس يؤدون رقصات أشبه ما تكون بالفرعونية بين تعالى الزغاريد فى كل أحياء القاهرة، إنه يوم العيد، عيد وفاء النيل.
• • •
أعترف أننى قبل كتابة هذه السطور حاولت الاطمئنان إلى أن ما ورد فيها ليس محض تأليف أو اعتمادًا فقط على ذاكرة لعلها بلت من كثرة الاستعمال والاستشهاد. لجأنا، أنا وزميلتى الآنسة وفاء، إلى مخازن حفظ الذاكرة وأغلبها أجنبى الجنسية واللغة. عثرنا على نسخة من جريدة مصر الناطقة بالإنجليزية تصف بدقة متناهية ومعتمدة على الصور والصوت أحداث هذا اليوم العظيم. استأنا بطبيعة الحال لعنصرية، أو ربما استشراقية، كاتب المشهد أو المذيع، وبخاصة عندما وصف بعبارات استنكارية أن الفراعنة كانوا يلقون فى النيل فى هذا اليوم ومن باخرة الفرعون بواحدة من أجمل عذارى المملكة المصرية وهى حية، يلقون معها أيضًا الكعك والفاكهة وأنواعًا شتى من الأضاحى والتمائم بعد تلاوة التراتيل وأداء الصلوات، وأن هذا التقليد ظل يمارس حتى وقت قريب.
ما أزال إلى يومنا هذا أذكر «عصافير الجنة» الفيلم الأمريكى الذى عرض بكل الذكاء الممكن والفخامة أسطورة عاشت فى جزيرة من جزر الباسيفيكى تحكى قصة حضارة عتيدة فى جزيرة يثور فيها بين الحين والآخر بركان عنيف وشرس يغرق ناحية أو أخرى من أنحاء الجزيرة باللهب واللافا المنصهرة. فما كان من كهنة الجزيرة وملوكها إلا إصدار الأمر بإلقاء إحدى أجمل عذارى الجزيرة فى قلب البركان عند بلوغه قمة غليانه. ولمزيد من إتقان الأسطورة وفرض الاقتناع بها قرر المستشرقون من مؤلفى الأسطورة أن يهدأ البركان بل يبرد بمجرد تلقيه الضحية فى قلب فورانه.
• • •
للمستشرقين بعض الحق فى توصيفهم الدقيق لحالة العشق التى كانت تربط المصرى العادى بالنيل. أقول كانت لأننى غير واثق تمامًا من أن المصرى ما يزال يعيش الحالة التى عاشها مع النهر منذ قرون عديدة خلت وكما عشتها أنا معه طفلًا كنت ثم مراهقًا ثم شابًا.
أذكر أننا كنا نستدعى من إجازاتنا الصيفية باعتبارنا أعضاء فى فرق الكشافة وجمعيات الرحلات لنؤدى من الألعاب واللوحات الرياضية والمسرحية أدوارًا طالما تدربنا عليها خلال شهور الربيع وأوائل الصيف. كنا، كما كان الفلاحون والمسئولون، نتطلع بشغف وشوق ومعهما كثير من الرهبة ونوع غير خاف من التقديس إلى حلول موعد الفيضان. أذكر أننى، وكنت شابًا غير صغير السن، أخرج إلى شاطئ النيل أو إلى كوبرى قصر النيل لأمشى مع رفاقى ومياه الفيضان الغاطسة فى الحمرة تغمر أقدامنا ونعود فرحين وقد اكتست بالطمى أحذيتنا.
• • •
لا أظن أننى رأيت النيل ساكنا. عرفته ينبض دائمًا بالحركة والحب والعطاء. انتقدوه إن زاد عطاؤه عن المطلوب والمرغوب، وعندما أحسنت الدولة ترويضه ندم الكثيرون وأنا منهم. الوحش الجميل فقد بعض فتوته ومعها أحد دواعى تقديسه. ومع ذلك استمر ساحرًا وجذابًا، استمر فاتنا.
عشت معه أوقات لا تنسى. عشت معه أحلى لحظات مسيرته. عشت أعتقد أنه لا شىء أجمل وأروع من نيل أسوان المتسرب بين الجنادل بكثير من الدلال والنعومة. أعرف أصدقاء من الجنسين، وكنا فى رحلة صعدنا إليه حتى منابعه، لم يصمدوا أمام سحره «الأسوانى» حتى ألقوا بأنفسهم فى أحضانه شوقًا وعرفانًا. توقفنا طويلًا أمام لحظة خلود، هى اللحظة التى التقى عندها النيل الأحمر بالنيل الأبيض، وتعمدنا فى نهاية الرحلة أن نقف طويلًا أمام لحظة خلود أخرى، لحظة التقى النيل العذب بالبحر المالح.
• • •
أذكر أحلى أيام عمرى معه. كم مشيت على شاطئه الغربى من «الكيت كات» حتى القناطر الخيرية لا أمل صحبته ولا يمل تطفلى. كم قضينا من ساعات أمسيات مع فلاح يزرع أرضا من طرح النيل، نزوره تجديفا بقوارب تتسع لاثنين لا أكثر. نتبادل حبات الطماطم وأكواب الشاى بأكلات جاهزة، نغسل الطماطم بمياه النيل ونسمع شعرا فى حب النهر وأحلام المستقبل. سافرت بعيدًا وطويلًا. عدت أبحث فى النيل عن جزيرتى والفلاح. خانت عهودنا فاشتراها من أقام عليها كازينو للسهر. حزنت وسافرت مرة أخرى وعدت لأسمع أن الكازينو اختفى لصالح فندق، وأن النهر اختطفته العمائر، وأن الناس غير الناس.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حكاية عشق حكاية عشق



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt