توقيت القاهرة المحلي 22:35:26 آخر تحديث
  مصر اليوم -

البحتري شاعر الوصف الأبرع في العصر العباسي

  مصر اليوم -

  مصر اليوم - البحتري شاعر الوصف الأبرع في العصر العباسي

تمثال مصنع للبحثتري
القاهرة اسامة عبدالصبور

أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري الطائي، ولد في "منبج" قرب حلب عام 206ه، ونشأ نشأة عربية خالصة؛ فقد كانت عشيرته "بحتر" تعيش بين البداوة والحضارة، ثم ذهب إلى حلب، وتنقل بين مدن الشام وقراه يمدح العامة والأمراء الصغار تكسباً بشعره. وفي حمص التقى بأبي تمام، وكان لقاؤه به نقطة تحول في حياته، إذ أولاه أبو تمام رعايته وعنايته لما لمس فيه من شاعرية، ولأنه ينتمي إلى طيء قبيلة أبى تمام، ولذلك قال له أبو تمام "أنت والله يا بنيّ أمير الشعراء من بعدي". وقدم له نصيحة أدبية مهمة أفادته في نظم الشعر وتجويده، حيث قال له: "يا أبا عبادة ، تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صِفْرٌ من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم، فإذا أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق ، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد ، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب ، واجعل شهوتك إلى قول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه".
 
وظل البحتري وفياً لأستاذه أبي تمام رغم ما قيل عنه من التقلب وعدم الوفاء، حتى إنه رد على من قال له "أنت أشعر من أبي تمام بقوله" قائلاً "ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام، واللهّ ما أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كما قالوا، ولكني والله تابع له آخذ منه، لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه".
 
وللبحتري "كتاب الحماسة" وديوان شعر كبير فيه مدح ورثاء وفخر وعتاب، وخير ما فيه الوصف، وكان مدحه وسيلة تكسُب وأسلوبه فيه تقليديًا، وقد امتاز بالصفاء والتلقائية والعذوبة والائتلاف بين الطبيعة والصنعة.
 
وكان البحتري في وصفه شاعر الخيال الخصب، والصفاء والجلال أما موضوعات وصفه فمرجعها إلى الطبيعة والعمران، وأما أسلوبه في وصفه فيختلف بين البداوة والحضارة، وقد استمد البحتري من الحضارة بعض الترابط الفكري، والتصويري، وحسن التأليف بيم أركان التشبيه واستمد من البداوة ماديتها المسيطرة، ونقلها الصادق، وتجسيدها التضخيمي، ولم يغرق في التعقيد والزخرفة البديعية. وصف البحتري من مشاهد الربيع، والمطر والأزهار والذئب والأسد والفرس أما الربيع فقد جعله مهرجان الوجود وشخَص كل ما فيه وأبرز فيه يقظة الطبيعة ووصف البحتري من العمران بركة المتوكل وإيوان كسرى. البحتري شاعر البداوة والحضارة ورجل النقل والتأمل، ورجل البناء الوصفي الفني والصناعة البديعية الجميلة وشاعر الغنة الساحرة.
 
واتبع البحتري خطو "أبي تمام" في الشعر ومضى على أثره في البديع ، إلا أنه أجاد في سبك اللفظ على المعنى ، واستمد معاينة من وحي الخيال وجمال الطبيعة لا من قضايا العلم والمنطق ، فأعاد للشعر ما ذهب من بهجته وروعته ، وإلى ذلك أشار المتنبي بقوله "أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري"، ثم صارت له طريقة خاصة في الجزالة والعذوبة والفصاحة امتاز بها من أستاذه ومدربه، ونهجها معاصروه ومن جاء بعدهم من الشعراء، وعرفت فيما بعد بطريقة أهل الشام وقد تصرف أبو عبادة في فنون الشعر إلا في الهجاء، فإن بضاعته فيه نزره وجيده منه قليل.
 
ويقال إنه أحرق هذا النوع قبل موته وهو الأرجح، ولم يسلم شعره من الساقط الغث لكثرته، وإنما يمتاز بالإجادة في المدح والقصد فيه، والقدرة على تصوير أخلاق الممدوح، والإبداع في وصف القصور الفخمة والأبنية العجيبة ، كوصف إيوان كسرى ، وبركة المتوكل ، وقصر المعتز بالله . وقصائده تكاد لا تخلو من افتتاح بالغزل. وقد جمع شعره أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف. وله أيضاً كتاب "معاني الشعر وحماسة البحتري". وهي كحماسة أبي تمام، إلا أنها تمتاز بكثرة أبوابها وخلوها مما تنبو الأسماع عنه ؛ وطبعت في بيروت.
 
ثم كانت رحلة البحتري الى بغداد التي كان لها أثرها الكبير في تاريخه وشعره، حيث إتصل بالوزراء وكبار الرجال. ومن الشعراء الذين اتصل بهم وعاصروه غير ابي تمام: دعبل الخزاعي، وابن الرومي، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وابن الزيات، وابن طاهر.
 
ولقد وصف البحتري إيوان كسرى في المدائن. وكانت المدائن عاصمة الأكاسرة قرب بغداد قصدها الشاعر في يأسٍ وكآبةٍ شديدة، ووقف في طلولها متأملًا، وراح يبثها أشجانه معبراً عما آلت إليه بعد عز طبق الآفاق ، ومجدٍ حسدتها عليه الدهور فعملت على هدمه وجعلته عبره لمن اعتبر.
والمدائن: جمع مدينة، اسم لمجموعة من المدن أنشأها الغزاة والملوك عصراً بعد عصر ، في بقعة جميلة قريبة من دجلة . وقيل أن "الاسكندر" بنى هنالك مدينة وسورها، ثم بنى "أنوشروان بن قياذ"  المدائن وأقام بها هو ومن بعده من ملوك بني ساسان إلى أيام عمر بن الخطاب ، وكان كل واحد منهم إذا ملك بنى لنفسه مدينة إلى جنب التي قلبها وسماها باسم ، وكان فتح المدائن كلها على يد سعد بن أبي وقاص . وقيل إنها كانت بعاً بين كل مدينة إلى الأخرى مسافة قريبة أو بعيدة، فلما ملك العرب ديار الفرس واختطت الكوفة والبصرة انتقل إليهما الناس عن المدائن وسائر مدن العراق ، ثم اختط الحجاج واسطاً فصارت دار الإمارة ، فلما زال ملك بني أمية اختط المنصور بغداد فانتقل إليها الناس ، ثم اختط المعتصم سامراً فأقام الخلفاء بها مدة ، ثم رجعوا إلى بغداد . والمدائن اليوم بلدة صغيرة بينها وبين بغداد نحو أربعين كيلومتراً، وفيها بقايا الإيوان المشهور .
 
وايوان كسرى الذي زاره في المدائن تخفيفاً عن الآم نفسه، فاسترجع صور حضارة الفرس في وصفه، نظم فيه قصيدته السينية الشهيرة، والتي كان منها:
 
وكأن الايوان من جب الصنعة جوب في جنب ارعن جلس
مشمخر تعلو له شرفات رفعت في رؤس رضوى وقدس
لابسات من البياض، فما تبصر منها الا غلائل بـــرس
 
وتأثر البحتري بكبار الشعراء، خاصة بابي تمام، فأخذ كثيراً من اقواله وقاس عليها، لكنه لم يجعل الحكمة بين اغراض شعره، ولقد تخير الاسلوب وانتقى الألفاظ ليوضح المعاني. وللبحتري مكانه رفيعه بين الشعراء العرب، فقالوا "انه من المطبوعين على مذاهب الأوائل، ولم يفارق عمود الشعر".
 
وتجنب البحتري التعقيد، والالفاظ المستكرهة، والاستعارات الغريبة، وقد كان قديراً في مدحه شأن شعراء عصره، لكنه بارزهم ونافسهم وقد أسقط في زمانه اكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم وانفرد باخذ جوائز الخلفاء والملوك دونهم. ولو كان هذا القول مبالغة، لكنه يصور حقيقة منزلته.
 
وترك البحتري ديوانًا ضخمًا رتبه علي بن حمزة الاصفهاني ونشر حديثًا. كما ان له كتاب "الحماسة" اختار فيه من شعر نحو 600 شاعر، اكثرهم من الجاهليين والمخضرمين، وجعله في ثلاثة ابواب (واحد للحماسة، وواحد للرثاء، وواحد للأدب). وهو يشترك مع "ابي تمام" في كثير من الشعراء الذين رووا عنهم.
 
ومن أجمل أشعاره وأبدع وصفًا تلك الأبيات التي يصف فيها الطبيعة الخلابة في فصل الربيع حين قال.
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه ...... يبث حديثا كان قبل مكتما
فمن شجر رد الربيع لباسه ...... عليه كما نشرت وشيا منمما
أحل فأبدى للعيون بشاشة ...... وكان قذى للعين إذ كان محرما
ورق نسيم الريح حتى حسبته ...... يجيء بأنفاس الأحبة نعما
 
ولم تكن علاقة البحتري مقصورة على الخلفاء والوزراء، بل كانت له صلات بطائفة كبيرة من الولاة والأمراء وقادة الجيوش ورؤساء الكتّاب ورؤساء ديوان الضياع وجامعي الخراج.
 
وقد ظل البحتري على صلة وثيقة بمسقط رأسه "منبج"، فكان يزورها باستمرار وفيها توفي. ويقول الشاعران محمود الدالي و محمد ملا غزيل من مدينة "منبج" بشمال حلب أنه يوجد قبران قديمان في إحدى مقابر المدينة ومهملان جدا تكاد لا تعرف أنه يوجد قبر هنا ويؤكدان حسب معلوماتهم أن أحد هذان القبران يعود للبحتري ،  فبعد أن كان في حياته نديم الخلفاء والوزراء وكبار رجال الدولة ، فها هو قبره اليوم يكاد أن لا يعرفه أحد من شدة الإهمال، على عكس بعض المبدعين والأدباء الذين خلد الناس ذكراهم بإقامة متحف في منزل أو ضريح يليق بهم ، كالمعري وأيضا ضريح نزار قباني في دمشق وغيره الكثير ممن اهتم الناس بهم وتذكروهم بنصب تذكاري أو أي شيء يدل على مكانة هذا الشاعر أو ذاك ، وقبره قبل الأحداث في سورية كان مهملاً فكيف هو الآن في ظل هذه الأحداث التي أدت لتخريب الكثير من المواقع والأوابد الأثرية التي يعود بناؤها لآلاف الأعوام.

 

egypttoday
egypttoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

البحتري شاعر الوصف الأبرع في العصر العباسي البحتري شاعر الوصف الأبرع في العصر العباسي



GMT 06:03 2023 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

«السياحة» تحتفل بالذكرى الـ121 لإنشاء المتحف المصري في التحرير

GMT 00:34 2023 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

وزارة الأوقاف المصرية تفتتح 17 مسجدًا فى عدد من المحافظات

GMT 07:13 2023 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

ترميم المومياوات باستخدام الذكاء الاصطناعي في مصر

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:44 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في "كان"
  مصر اليوم - نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في كان

GMT 05:14 2012 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

الإعصار "ساندي" وظاهرة الاحتباس الحراري!

GMT 17:19 2023 الأربعاء ,15 آذار/ مارس

القبض على سارقي فيلا محمد صلاح

GMT 12:31 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

إليكِ أبرز قواعد الإتيكيت في المطاعم الراقية

GMT 18:59 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد الشيخ يداعب وليد أزارو في تمرين الأهلي

GMT 18:17 2019 السبت ,16 شباط / فبراير

دببة تسرق طعامًا من داخل منزل في كاليفورنيا

GMT 07:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

طريقة سهلة لتحضير كعكة الجبن الخفيفة

GMT 13:04 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

يسرا تؤكد أنها ستقاضي "نيويورك تايمز" بعد تقريرها عن القدس

GMT 02:27 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ملكة جمال العراق فيان السليماني تفوز في دعوتها القضائية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon