توقيت القاهرة المحلي 13:01:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حرب الرؤوس وحرب الجيوش

  مصر اليوم -

حرب الرؤوس وحرب الجيوش

بقلم - عبد الرحمن شلقم

«الإنسان ـ أعني رأسمال الحرب ـ يحصل عليه المرء بالمجان. يطعمه ويربيه مثل العجل، ثم يحمله معه إلى ساحة الحرب، وهي سوق عادية للبيع والشراء بطرق المنافسة، وهناك يقايضه بأرنب مجفف أو كهف أو شارع في مدينة، ويدفنه في احتفال صاخب، ويقيم له نصب الجندي المجهول، ويدعوه شهيداً في طريقه إلى الجنة. الإنسان عملة نقدية من فئة القرش أو المليم حسب الظروف» (الصادق النيهوم).
سقراط يعيش في كل ثانية في الرؤوس، والإسكندر
الأكبر يخبو في قبر مجهول. التفكير والنقاش يكبر مع كل حرف يتعلمه إنسان. لكن السّم الذي تجرعه رأس السؤال الإنساني كثرت أوانيه واختلفت ألوانه، في كل يوم تتزاحم تعقيدات الحياة، تتضاعف الأسئلة أمام المفكرين كبارهم وصغارهم. حروب الجيوش تدور على الأرض فوق مساحات محددة وأوقات محدودة.
منذ انطلاق عاصفة الفكر في مرحلة النهضة والتنوير في أوروبا، دخلت معركة الرؤوس حلقة الاختبار الإنساني الأكبر. معركة سقراط الطويلة التي شرب فيها سماً من نوع آخر، سم المواجه المارد. جاليليو وكوبر نيكوس وعشرات معهم أشهروا سيوف العقل في مواجهة جحافل الجهل. الدين استخدمه أولياء التخلف درعاً يردون به زخم قوة الفكر والإبداع والحرية. منذ القرن الثاني عشر وحتى القرن التاسع عشر تدفق الفكر الإنساني الجديد. عاشت البشرية حروباً في بقاع شتى من العالم تحت رايات مختلفة وأهداف مشروعة أو غير مشروعة. الاستعمار لوَّن حقباً طويلة من التاريخ. سالت أنهار من الدماء دافع فيها وطنيون عن استقلال بلدانهم في مواجهة جيوش جرارة غازية. كانت تلك المعارك مواجهة دامية بين الرؤوس والجيوش. معارك الحرية الدامية على الأرض هي حلقة من حلقات حرية التفكير في الرؤوس. الاستعمار عاش ردحاً من الزمان هنيئاً فوق الأراضي المُستعمرة، ارتفعت نار المقاومة مع ارتفاع صوت فكر الحرية الذي أشعل نار التحرير.
شهد العالم تحالفات عسكرية امتدت في مساحات عابرة للقارات. ولدت تكتلات اقتصادية وسياسية، غاب التحالف والتكتل الفكري بين النخب العالمية في مراحل طويلة من التاريخ. لكن تراجع الأمية، واتساع مدى التعليم، والعولمة الإنسانية المدعومة بقوة وسائل التواصل والاتصال ووسائل الإعلام الكونية، أسست تحالف الحرية الفكرية، حلف الرؤوس الذي يجهز على خنادق الطغيان ويردع تحالف الجيوش.
التطرف الديني والقومي قوة الموت تحارب بسلاح دخاني يخنق حفرها، قبل أن يقتل من يواجهها. التخلف جيش يكفر التفكير، معركة عاشها التاريخ عبر القرون، لكن التطرف ميت يولد من ميت لا يحمل في داخله أنفاس الحياة. سقراط عالم من الحياة عابر للمكان والزمان، والذين قدموا له كأس السم رُدموا تحت تراب الماضي.
الفكر أقوى من كل وصفات الموت. فرنسا نابليون ساحت برجالها المسلحين بالبارود، انتصرت في حلقات وهزمت في أخرى، احتلت أجزاء من آسيا وأفريقيا وجنوب أميركا، وبريطانيا التي ارتفع علمها ردحاً من الزمن على أصقاع الدنيا وكذلك إسبانيا والبرتغال وروسيا، قوة سادت ثم زالت.
جيش العقل والفكر ليس له جنرالات يحملون الرتب والنياشين. لا تراتبية قيادية ومنظومات لإصدار الأوامر.
نقول: جيش هنا بمعنى (قوة الفعل) التي تفتح أبواب الحياة المتجددة بقوة الإنسان الكامنة في تكوينه. الفلاسفة والمفكرون قوة فتح وكبح. الطغاة والعنصريون والاستعمار، كانت القوة الغاشمة والقهر واحتقار الإنسان والتجهيل سلاحهم الأقوى، لكن الفكر الإنساني المتسلح بقوة الحرية والعدالة وخرائط الفكر، يسلب الطغاة قوتهم في صبر إعجازي ينساب إلى الرؤوس. تتهاوى قلاع الطرف الآخر في معركة لا يرونها، ويتقدم النصر بلا أرتال مجنزرة. العنف والطغيان لا يقهر إلا بقوة الفكر.
قال الفيلسوف برتراند راسل: (يخافون الأفكار أكثر من أي شيء، أكثر من الخراب، حتى أكثر من الموت. الأفكار لا ترحم المزايا، المؤسسات القائمة أو العادات المريحة لا تحكمها القوانين ولا تبالي بالسلطة. الأفكار سريعة وحرة ومجانية، إنها الشعلة المضيئة للعالم، إنها مجد الإنسان الحقيقي).
نحن على أبواب عالم مختلف يتحرك بعصبية معسكرة اقتصادياً وسياسياً. العنف في صور دامية من كيانات مجنونة، لا تقيم للحياة الإنسانية قيمة. تراجعت قوة الفكر التي تفتح باب الإبداع الذي يكتب صفحات جديدة لعالم جديد. فعالية الفكر بطيئة عكس فعالية التطرف العنيف الذي يتوجه إلى القاصرين، يقدم لهم عالماً وهمياً بديلاً، يكونون فيه فوق الآخرين، أبطالاً سيغيرون الدنيا عنوة، كل فرد منهم يعتقد أنه يجمع في ذاته كل العظماء والأقوياء في التاريخ.
هذه الحالة تختلف عندما يواجه الفكر شخصاً طاغية يسيطر بالقوة على بلاده ومقدراتها مثل هتلر وستالين وموسوليني وغيرهم. التنظيمات الإرهابية هي تجمع مشوه من عناصر مشوهة. أشباح تتكوّم حول جنون الدم، تصنع منه كياناً في عالم خاص لا قيمة لمن هو خارجه، بل حتى من هم بداخله، يفقدون أي قيمة إذا حاولوا أن يكونوا من حملة العقل، مناقشة عقيدة الوهم أو التراجع عنها أو عن بعضها تعني الإزالة من الوجود.
للأسف، المرض يعدي، الصحة لا تعدي.
العالم يحتاج إلى تحالف فكري واسع، فوق الآيديولوجيات والحسابات السياسية. الأنظمة السياسية في العالم اليوم تفرقها أنانية تقفز فوق الاستحقاقات الوجودية، من قضية المناخ إلى كارثة الهجرة غير القانونية، والأوبئة، والفقر. المعركة العالمية اليوم بين الحياة والموت. التطرف الديني والعنصري وباء العصر يهدد الغني والفقير، الكبير والصغير، لا يمكن مواجهته بغلق الحدود، أو بسياسات منفردة، التحالف الكوني ضد وباء الجنون الدموي خطه الأول قوة تنوير وحداثة إنسانية شاملة، تسخر لها إمكانيات العقل البشري القادرة على تأسيس حالة وعي إنساني وثقافة التسامح المتعالية فوق الحدود السياسية للأوطان. قوة الرؤوس أقوى من الجيوش.

 

 

نقلا عن الشرق الاوسط

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حرب الرؤوس وحرب الجيوش حرب الرؤوس وحرب الجيوش



GMT 01:22 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 01:11 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 01:07 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 23:18 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تنظيم العمل الصحفي للجنائز.. كيف؟

GMT 23:16 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 01:52 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة
  مصر اليوم - منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 06:56 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

شهر مناسب لتحديد الأهداف والأولويات

GMT 14:29 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

مؤمن زكريا يتخلّف عن السفر مع بعثة الأهلي

GMT 05:35 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

شوبير يفجر مفاجأة حول انتقال رمضان صبحي إلى ليفربول

GMT 13:45 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

ماكينات الـ ATM التى تعمل بنظام ويندوز XP يمكن اختراقها بسهولة

GMT 02:15 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على سعر الدواجن في الأسواق المصرية الجمعة

GMT 17:17 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الوطني يصل السعودية لأداء مناسك العمرة

GMT 16:08 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتشاف تابوت يحوي مومياء تنتمي للعصر اليوناني الروماني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon