توقيت القاهرة المحلي 11:13:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

استدارة «النواس العظيم»

  مصر اليوم -

استدارة «النواس العظيم»

بقلم:حسام عيتاني

الإضرابات التي تشهدها بريطانيا منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تذكر بأجواء منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا وأميركا الشمالية. ذاك أن الحل الذي تروّج له حكومات المحافظين للخروج من الركود والتضخم اللذين أعقبا وباء «كوفيد - 19» يتطلب «زيادة الإنتاجية» على ما أبلغ وزير الصحة ستيف باركلي، ممثلي النقابات الذين التقاهم.
موقف الوزير البريطاني استعادة باهرة لطريقة في التفكير (والعمل) لا تقيم وزناً حقيقياً لقوى الإنتاج وتلح في الوقت ذاته على إبقاء شبكة أمان للمجتمع لمنع انهياره. بكلمات ثانية: على موظفي القطاع الصحي أن يتحملوا ساعات عمل لا نهاية لها وتدفقاً مستمراً للمرضى بإمكانات وموارد لا تني تتناقص وتضمحل بسبب سياسة التقشف الصارمة.
بيد أن الإضرابات هذه ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي يختبئ تحت ماء التغيرات الدولية التي أسهم الوباء في تظهيرها ودفعتها الحرب الروسية في أوكرانيا دفعة قوية إلى الأعلى. فالنموذج الذي يجري التركيز عليه حالياً يرتكز على الوظائف التي لا تُلزم رب العمل بأي ضمانات أو حماية للموظفين. وهذا ما تحاول بعض الحكومات نقله من القطاع الخاص إلى ما تبقى من قطاع عام، على غرار النظام الصحي البريطاني.
ويدعم التغيير العميق هذا في علاقات العمل رهان قسم من أصحاب العمل على تحقيق الذكاء الصناعي والجيل الجديد من الروبوت المعادلة الذهبية: جني أرباح طائلة من كلفة شبه معدومة وفي ظل غياب تام لأي مسؤولية اجتماعية.
تفسير هذه الظاهرة التي تتعمم في العالم وتنتقل من الدول الصناعية الكبرى إلى تلك النامية والأقل نمواً، يكمن في اختلال التوازن ضمن الأنظمة السياسية القائمة على مقولات الليبرالية - الديمقراطية. فليس سراً أن الصيغة الليبرالية - الديمقراطية التي أرسيت بعد الحرب العالمية الثانية وأتاحت «للنواس الاقتصادي العظيم» (Great economic pendulum بحسب تعبير الاقتصادي بول دي غروي) العودة من الانفلات الكامل لرأس المال الذي تسبب في «الركود الكبير» في عشرينات القرن الماضي، وشكل أحد أسباب الحرب المذكورة، إلى استدارة «النواس» والتحول نحو إتاحة المزيد من التدخل للدولة في ضبط علاقات العمل وضمان حقوق المنتجين على حساب أصحاب رؤوس الأموال الكبرى.
التهديدات القاتلة التي تواجهها الليبرالية - الديمقراطية (وهي ليست - بالضرورة - النموذج الأمثل والنهائي لما يمكن للبشر أن يصلوا إليه في تنظيم وإدارة اجتماعهم)، تتركز في القسم «الديمقراطي» إذا جاز القول من المعادلة. وليس صدفة أن تتعرض المؤسسات التي ترمز إلى الديمقراطية إلى الهجوم المباشر على غرار ما جرى في البرازيل أخيراً على أيدي مندوبي اليمين المتطرف. فالديمقراطية، في النموذج السياسي الحالي، هي المنوط بها حماية المجتمع ومواجهة الضغوط الهائلة التي يتعرض لها لاستخراج أقصى ما يمكن من عائدات ولو عن طريق تدمير البيئة التي تحتضن البشر. وهذا بالضبط ما حاولته الحكومة السابقة في البرازيل من خلال الهجوم على غابات الأمازون.
والشيء بالشيء يذكر أن اقتصاديين آخرين استخدموا فكرة النواس في تشبيه حركة السوق بين حدين أقصيين من البطالة والتضخم إلى أن تعود السوق في نهاية المطاف إلى نوع من الاستقرار بفضل قوانين الاقتصاد الرئيسية.
من جهة ثانية، ما زال صدى النعي المتكرر منذ ثمانينات القرن الماضي لدور الدولة في المجتمع والاقتصاد، الذي مثل الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر نجميه الساطعين، يتردد في العديد من القوى السياسية التي لا يندر أن تصل إلى الحكم. وتعي القوى هذه أن أزمة الديمقراطية الحالية وصعود الشعبويتين اليمينية واليسارية أن المجتمع سيرد على محاولات تطويقه وإخضاعه. وتتخذ ردود المجتمع أشكالاً شتى منها رفض الانخراط في سوق عمل ظالمة وعدمية في ظاهرة انتشرت بعد الوباء وأدهشت المحللين الاقتصاديين الذين راقبوا النقص الحاد في عدد طالبي العمل في قطاعات ترغم المشتغلين فيها على ما يشبه العبودية في الرواتب والضمانات، على ما يقول دعاة إحياء العمل النقابي في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
في الدول النامية أو الأقل نمواً، تزداد مأساوية المشهد بالنظر إلى هشاشة آليات الدفاع المجتمعية وسهولة اختراقها والالتفاف عليها على ما نشهد في لبنان منذ ثلاثة أعوام ونيف؛ حيث نجح تحالف من السياسيين الفاسدين تحميه قوى أهلية مسلحة في إجهاض كل محاولة إصلاحية وفي فرض استنقاع شامل والقضاء على آمال أجيال بكاملها في العيش الكريم.
المجتمعات التي لم تصبها هذه الآفة كلياً ما زالت تحاول إدارة حركة «النواس العظيم» صوب مصالحها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استدارة «النواس العظيم» استدارة «النواس العظيم»



GMT 20:57 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان

GMT 20:53 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عفونة العقل حسب إيلون ماسك

GMT 20:49 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا تناشد ‏الهند وباكستان تجنب «الانفجار المفاجئ»

GMT 20:45 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عودوا إلى دياركم

GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 09:39 2017 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

الإعلامية ناردين فرج تقدم برنامج "ذا فويس كيدز" 2017

GMT 01:25 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

حافظ على صحة قلبك والجهاز الهضمى بالعدس

GMT 10:43 2017 الإثنين ,22 أيار / مايو

أفكار وأكسسوارات مميزة لمطبخ رمضان الكريم

GMT 06:16 2015 الخميس ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة إيطالية حديثة تؤكّد أنّ "سرعة القذف" حالة نفسية

GMT 16:22 2017 الإثنين ,20 آذار/ مارس

10 نصائح لاختيار صندوق طعام طفلك المدرسي

GMT 08:31 2017 الأربعاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

محلات "vitrine" تطرح أحدث تشكيلة من ملابس الخريف

GMT 05:16 2017 الإثنين ,02 تشرين الأول / أكتوبر

مسلسلات وأفلام حكت عن حرب أكتوبر ورأي النقاد بها

GMT 06:59 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير التموين يعلن 80 مليار جنيه تكلفة دعم التموين والخبز
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt