توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ

  مصر اليوم -

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ

بقلم:تركي الدخيل

هَذَا بَيْتُ شِعْرٍ، قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ أَعْظَمُ بَيْتٍ فِي «الهَيْبَة». وَذُكِرَ أَنَّهُ أَجْمَلُ مَا قِيلَ فِي الحَيَاءِ.

وَهوَ مِنْ أَجْمَلِ أَبْيَاتِ المَدِيحِ فِي الشَّعْرِ العَرَبِي، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ، فِي مَمْدُوحِهِ:

يُغْضِـي حَيَـاءً وَيُغْضَـى مِـنْ مَهَابَتِـهِ فَمَـا يُكَـلَّـمُ إِلَّا حِيـنَ يَبْتَسِـمُ

قوله: يُغضِي: مَنْ أَغْضَى يُغْضِي إِغْضَاءً. وَالإغْضَاءُ: هُوَ إِدْنَاءُ جُفُونِ العَيْنَيْنِ مِنْ بَعْضِهِمَا بَعْضاً، وَهُوَ دُونَ إِطْبَاقِ الجَفْنَيْنِ، بِإِغْمَاضِ العَيْنِ كُلِّهَا، وَإِغْلَاقِهَا تَمَاماً.

وَيُغْضِي: بِالمَبْنِي لِلْمَعْلُومِ، يُرَادُ بِهِ أَنَّ المَمْدُوحَ يُغْضِي جُفُونَهُ، حَتَّى يَكَاد يُغْلِقُ عَيْنَهُ.

وَإِغْضَاءُ الجُفُونِ، تَعْبِيرٌ بَدَنِيٌّ أَصِيلٌ عَنِ الحَيَاءِ، ذَلِكَ أَنَّ العُيُونَ تَفْضَحُ صَاحِبَهَا، وتُظْهِرُ بِطَبِيعَةِ حَرَكَتِهَا، وَبِمَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَكْلُهَا، مَوْقِفَ المَرْءِ مِنَ الحَدَثِ، أَوِ الحَدِيثِ، أَوِ الآخَر. وَسَبَبُ إِغْضَاءِ المَمَدُوحِ جُفُونَهُ، مَا بِهِ مِنْ حَيَاء.

وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيق العِيد، تَعْرِيفًا جَمِيلًا لِلْحَيَاءِ، يُؤَكِدُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَقَالَ:

«وَالْحَيَاءُ»: تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، مِنْ تَخَوُّفِ مَا يُعَاتَبُ بِهِ، أَوْ يُذَمُّ عَلَيْهِ. وَإِغْضَاءُ الجُفُونِ، تَجْسِيدٌ لِهَذَا التَّغَيُّرِ وَالانْكِسَارِ، الوَارِدِ فِي التَّعْرِيف.

وَيُغْضَـى: بِالبِنَاءِ لِلمَجْهُولِ، وَالتَّقْدِيرُ أنَّ الآخَرِينَ الذِينَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ المَمْدُوحِ بِأَصْنَافِهِمْ، يَغُضٌّونَ جُفُونَهُمْ، لَا حَيَاءً هَذِهِ المَرَّةَ، بَلْ لِمَا يَجِدُونَ فِي المَمَدُوحِ مِنَ المَهَابَةِ التِي تَجْعَلُهُمْ يُوشِكُونَ عَلَى إِغْمَاضِ عُيُونِهِمْ (مِنْ مَهَابَتِهِ): أيْ مِنْ أَجْلِ مَهَابَتِهِ.

وَ(الْمَهَابَةُ): هي الْهَيْبَةُ: والْمَهَابَةُ: هِيَ الْإِجْلَالُ وَالْمَخَافَةُ والتَّعْظِيمُ.

وَمِنَ العَجِيبِ أنَّ الشَّاعِرَ اسْتَخْدَمَ فِي شَطْرِ البَيْتِ الإِغْضَاءَ مَرَّتَينِ، لَكِنَّه جَعَلَ سَبَبَ إغْضَاءِ الجُفُونِ وَمَا قَبْلَ إِطْبَاقِ العُيُونِ، عِندَ المَمدُوحِ حياءَه، وإغضاءِ الجُفونِ عندَ الآخرينَ - الذِينَ لَمْ يُسَمّهِمْ صَرَاحَةً لَكنَّه قَصَدَ كُلَّ مَنْ يَتَعَامَلُ مَعَ المَمْدُوحِ مِنَ النَّاسِ- تَهَيُّبَ المَمْدُوحِ، وَيُمْكِنُنَا القَولُ أنَّ سَبَبَ إِطْبَاقِ الجُفُونِ «الثَّانِي» هُوَ الخَوْفُ.

ثُمَّ ابْتدَأ الشَّاعِرُ الشَّطْرَ الثَّانِيَ مِنَ البَيْتِ بِمُوَاصَلَةِ حَدِيثِ مَهَابَتِهِ مِنَ الآخَرِينَ، وَهَذِهِ الهَيْبَةُ هِيَ الّتِي تَجْعَلُهُمْ يَحْجُمُونَ وَيَحْشَمُونَ عَنْ تَكْلِيمِهِ فِي الأَحْوَالِ العَادِيَّةِ، لَكِنَّهُ إِذَا افْتَرَ ثَغْرَهُ عَنْ بَسْمَتِهِ، الّتِي يَقْرَأُهَا النَّاسُ انْشِرَاحاً وَارْتِيَاحاً لَدَى المَمَدُوحِ، وَحَالَةِ ارْتِيَاحِهِ وَسُرُورِهِ وَحُبُورِهِ، فهِيَ الاسْتِثْنَاءُ الوَحِيد الّذِي يُكَلَّمُ فِيهِ المَمَدُوحُ الحَيِيُّ المَهْيُوب.

وَلَاحِظْ أَنَّ الشَّاعِرَ اسْتَخْدَمَ لَفْظَةَ يُكَلَّم: بِالبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَهَذِهِ هِيَ المَرَّةُ الثَّانِيَةُ الّتِي يُعبّرُ فِيهَا الشَّاعِرُ عَنْ فِعْلِ الآخَرِينَ تُجَاهَ المَمْدُوحِ بِالبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَيبدُو أنَّهُ أرَادَ أنْ يقولَ لنَا: المَعلُومُ المَعرُوفُ طَرَفٌ وَاحدٌ بِسَجايَاهُ الحَمِيدَةِ، مثلُ إِغضَائِهِ وَحَيَائِهِ وَتَبَسُّطِهِ وَابتسَامِهِ وَأُنْسِهِ وَإينَاسِهِ وَهَيْبَتِهِ، وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ مَجْهُولٌ: يُغضَى ويُكَلَّم.

وَحِينَ يَنبسِطُ ويُسَرُّ تُحقَّقٌ طَلبَاتُ الآخَرِينَ فَمَنْ جَاوَرَ السَّعِيدَ سَعُدَ، وَمَنْ أَدْرَكَ تَبَسُّمَ المَمْدُوحِ اهْتَبَلَ فُرْصَةَ ارْتِخَائِهِ وَكَلَّمَهُ...

مَنَ هُوَ شَاعِرُ البَيْت؟! ثَمَّةَ خِلَافٌ فِي نِسْبَةِ البَيْتِ لِشَاعِرِهِ.

فَمِنْ قَائِلٍ أنَّ البَيتَ لِلْفَرَزْدَق، مِنْ قَصِيدَةٍ شَهِيرَةٍ، يَمدَحُ فِيهَا زَيْنَ العَابِدِينَ، عَلِيَّ بنَ الحُسَين (ت 94 هـ)، وَهُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلمُ.

وَهُنَاكَ مَنْ يَنسِبُ البَيتَ لِلْحَزِينِ الكِنَانِيّ، الشَّاعِرِ الأُمَوِيّ، وَاسْمُهُ عَمْرو بنُ عَبْدِ وَهَب.

حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: إِنَّهُ سَيَأْتِي بِالْمَدِينَةِ الْحَزِينُ الشَّاعِرُ، وَهُوَ ذَرِبُ اللِّسَانِ، فَإِيَّاكَ أَنَّ تَحْتَجِبَ عَنْهُ، وَأرْضِهِ.

فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَرَأَى جَمَالَهُ، وَفِي يَدَهِ قَضِيبُ خَيْزُرَانٍ، وَقَفَ سَاكِتًا...

فَأَمْهَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرَاحَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: السَّلامُ رَحِمَكَ اللَّهُ أَوَّلَا..

فقَالَ: عَلَيْكَ السَّلامُ، وَجْهُ الأَمِيرِ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَدَحْتُكَ بِشِعْرٍ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْكَ وَرَأَيْتُ جَمَالَكَ وَبَهَاءَكَ، رَهِبْتُكَ، فَأُنْسِيتُ مَا قُلْتُ، وَقَدْ قُلْتُ فِي مَقَامِي هَذَا بَيْتَيْنِ.

قَالَ: مَا هُمَا؟ قَالَ:

فِـي كَـفِّــهِ خَـيْـزُرانٌ رِيـحُـهَـا عَـبِـقٌ مِـنْ كَـفِّ أَرْوَعَ فِي عِـرْنِـيـنِهِ شَمَمُ

يُغْضِي حَيَـاءً وَيُغْضَى مِـنْ مَـهَـابَـتِـهِ فَـلَا يُــكَـلَّـمُ إِلَّا حِـيـنَ يَــبْـتَـسِـمُ

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt