توقيت القاهرة المحلي 05:29:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

استقالات جماعية

  مصر اليوم -

استقالات جماعية

بقلم - سوسن الأبطح

50 مليون أميركي استقالوا من وظائفهم، في السنتين الماضيتين، لأسباب متباينة، ليس المال أهمها، بل «البحث عن الذات». الظاهرة وصلت إلى أوروبا، ولها ما يشبهها في المنطقة العربية، وإن افتقدنا الأرقام؛ بسبب استفحال البطالة، واضطراب المجتمعات وفوضاها. ففي بلجيكا على سبيل المثال، زاد عدد المستقيلين من وظائفهم إلى الضعف العام الماضي، نسبة إلى سنة 2020 التي سبقتها؛ ما يعني أن التململ يتصاعد. نحن لا نتحدث عن عمال صغار فقط، بل عن مديرين ومستشارين، لا يترددون في ترك عملهم، لتغيير مسارهم، وإن اضطروا إلى المغامرة بفترة انتظار مقلقة.
البعض يعزو السبب إلى فترة الحجر القاسية التي أجبرت الناس على إعادة النظر في وجودهم برمته، لكن دراسة أوروبية تعود إلى سنة 2018، وما قبل الوباء، أظهرت أن 74 في المائة من المديرين التنفيذين الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة، يفكرون بانتظام في ترك مناصبهم، وأكثر من النصف استقالوا بالفعل قبل أن يقضوا عشر سنوات في الشركة نفسها. هذا الميل للتنقل والمغامرة، لا يعني أن الشبان، يريدون الحصول على فرصة أفضل، بل ما هو أنسب لميولهم والأقرب إلى أمزجتهم، فبينهم من يغير مساره كلياً.
أعرف موظفاً مرموقاً، ترك منصباً يُحسَد عليه ليؤسس دكاناً لبيع نوع من الجبن يعشقها، وآخر استقال من عمله في الإنتاج في محطة تلفزة كبرى، ليفتح مؤسسة لبيع الصابون. وهذه الآمال قد تصيب أو تخيب، فليس هذا هو المهم.
وعلى عكس السابق، فإن أصحاب المؤسسات، هم الذين يجهدون اليوم للحفاظ على أفضل موظفيهم، وإغرائهم بالبقاء. فمن يغادر هم الأكثر طموحاً في كثير من الأحيان، والوفرة في الأعداد التي تتقدم لسد الفراغ، لا تلغي المتاعب التي تعانيها الشركات، بسبب التغيرات المستمرة.
مسؤول التوظيف في شركة فرنسية للمعلوماتية تدعى «إل دي إل سي» لم يجد من وسيلة لاستقطاب أذكياء واستبقائهم، بمستوى الذين تغريهم إمبراطوريات «غافام» سوى رفع شعار «عمل أقل بإنتاجية أكبر». وخفضت الشركة أيام العمل إلى أربعة بدلاً من خمسة في الأسبوع، والنتيجة أنها بالفعل ضاعفت أرباحها في زمن قياسي، واطمأنت إلى أن كل مغادر لها، سيتريث؛ لأنه سيخسر يوم راحة في أي عمل جديد.
الكوارث محفزة للخيال، وولاّدة الابتكارات. فإلى جانب الذين بقوا يعملون من منازلهم، هناك بطبيعة الحال، من يتقاسمون الوقت بين البيوت والمكاتب في المدن الكبرى. لكن شركة ناشئة مثل «ايدريس» تعمل في مجال التوظيف، لشركات ضخمة، قررت أن تتمركز بموظفيها في قرية قرب مدينة «ليون»، الفرنسية يسكنها 60 شخصاً فقط، لتؤمّن السكينة، والأسعار الأفضل، وتستقطب من تروق لهم الأجواء الريفية.
وتقول الباحثة سيلين مارتي المتخصصة في مجال العمل وصاحبة كتاب «اعمل أقل لتعش أفضل»، إن نظام الشغل الحالي يتسبب بآلام للعاملين، وهدر للطاقات. «نحن في خضم اقتصاد يعاني سوء المعاملة، والنتيجة أن بعض أرباب العمل باتوا يندمون على سياسة الرقابة الصارمة التي مارسوها على موظفيهم، ولم تثمر شيئاً».
لهذا؛ فإن الكلمة الأساسية التي تتردد عند مسؤولي الموارد البشرية في كبار الشركات هي «الثقة» و«التحفيز». يحتاج الموظفون الشباب إلى ما هو أهم من الراتب، يريدون أن يروا بعداً أخلاقياً ما في الشركة، هدفاً اجتماعياً لعملها، نفحة إنسانية في سلوكها وأهدافها.
هم يحتاجون أيضاً إلى أن يصبحوا مساهمين في المشروع، شركاء فيه، منخرطين في مراميه البعيدة. إنه جيل يريد من العمل أن يكون متعة لا واجباً ثقيلاً، إنهم يبحثون عن «معنى».
لكن أصحاب العمل ليسوا جميعهم في خانة واحدة. فقد قرر إيلون ماسك، بعد أن ضربت الموجة الجديدة من «كورونا» شنغهاي، أن يبقي مصنع «تسلا» هناك الذي تخرج منه ألفا سيارة في اليوم، أي نصف عدد السيارات التي تنتجها شركته في العالم يومياً، على نشاطه المعتاد. وبدلاً من الحجر في المنازل، أغلقت أبواب المصنع، على آلاف العاملين فيه، مع أنه غير معدّ للنوم، وتحول إلى سجن كبير. افترش الموظفون الذي يعملون 12 ساعة، الأرض، بعد أن زُوّدوا بالفرش والأغطية، وقضوا أسابيع في عزلتهم هذه. ليست «تسلا» وحدها هي التي حوّلت موظفيها معتقلين، في سبيل الإبقاء على صحة الاقتصاد، بل اقتدى بها ما يقارب 600 مصنع في شنغهاي. هؤلاء لا نعرف ما سيكون غدهم، ولا أي سلوك سينهجه أولادهم؟
فترة الثمانينات والتسعينات التي أدخلت الكومبيوتر إلى المكاتب، غيّرت روح العمل، وأعادت تنظيم المؤسسات، ثم انتشرت الإنترنت، في مرحة ثانية، مع بداية الألفية الحالية، لتربط هذه المؤسسات، وتخلق سوقاً واحدة، يمكنها أن تشرع نوافذها على بعضها بعضاً، في حين الموظفون قابعون على مكاتبهم، في غرف صغيرة.
هذه تجربة صادف أنها اصطدمت بمفصل تاريخي حين تزامن دخولنا مرحلة ثالثة بسبب تفعيل «الذكاء الصناعي»، في زمن الحجر والوباء. إنها بحسب مفكرين في علم اجتماع العمل، مرحلة «رقمنة الخدمات»، حيث أصبحت علاقة التلميذ بأستاذه افتراضية، كما الطبيب بمريضه، والتاجر بزبونه، وفقد الإنسان كلياً، تلك الصلة الإنسانية الدافئة التي تهدئ من روعه الوجودي. لذلك؛ فما من نصيحة تسدى لأصحاب المصالح والشركات، أكبر من التعامل مع موظفيهم كشركاء وأصدقاء وربما أبناء. وداعا للزمن الذي كان فيه الشاب يدخل عالم الوظيفة، ويبقى على مكتبه إلى يوم التقاعد، ويخرج بحفل وداع من زملائه تذرف خلاله دموع الحنين وغمرات النوستالجيا والأسى.
الشباب ليسوا هم من تغيرت أمزجتهم، بل العالم من حولنا هو الذي انقلب وتبدّلت أحواله.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استقالات جماعية استقالات جماعية



GMT 01:22 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 01:11 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 01:07 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 23:18 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تنظيم العمل الصحفي للجنائز.. كيف؟

GMT 23:16 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 06:56 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

شهر مناسب لتحديد الأهداف والأولويات

GMT 14:29 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

مؤمن زكريا يتخلّف عن السفر مع بعثة الأهلي

GMT 05:35 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

شوبير يفجر مفاجأة حول انتقال رمضان صبحي إلى ليفربول

GMT 13:45 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

ماكينات الـ ATM التى تعمل بنظام ويندوز XP يمكن اختراقها بسهولة

GMT 02:15 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على سعر الدواجن في الأسواق المصرية الجمعة

GMT 17:17 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الوطني يصل السعودية لأداء مناسك العمرة

GMT 16:08 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتشاف تابوت يحوي مومياء تنتمي للعصر اليوناني الروماني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon