توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فلسطين: مستقبل بلا ماضٍ وماضٍ بلا مستقبل

  مصر اليوم -

فلسطين مستقبل بلا ماضٍ وماضٍ بلا مستقبل

بقلم :حازم صاغية

«غزّة الجديدة» و«رفح الخضراء» هما العنوانان اللذان يهبّان علينا بوصفهما مشروعاً لمستقبل غزّة العامرة والزاهرة. وهذا في موازاة عناوين أخرى مسكونة بالمشاريع العقاريّة والربحيّة، بعدما سبق أن طُرحت الريفييرا الفرنسيّة بوصفها مثالاً للتقليد.

ولربّما كان من أهداف هذه الخطط، التي تزدهي بالجِدّة والألوان، بناء نموذج ناجح يحتذي به الآخرون مقارنة بالنموذج الفاشل والقديم. فكما في حالتي كوريا الجنوبيّة وألمانيا الغربيّة قياساً بكوريا الشماليّة وألمانيا الشرقيّة، تُقام جنّة أرضيّة في الشطر الذي يُفترض أن تبقى فيه إسرائيل، أي 58 بالمئة من مساحة القطاع، بينما يُترك الشطر الآخر للجحيم. وهذا كلّه فيما إجماليّ مساحة غزّة 365 كيلومتراً مربّعاً!

أمّا التهجير السكّانيّ، والتعامل مع الحرب الإباديّة ومضاعفاتها، ومستقبل الفلسطينيّين السياسيّ...، فهذه كلّها تُدفع إلى تحت السجّادة من دون أن تعطّل التساؤلات البريئة: ما المانع في جعل غزّة مثل دبيّ أو الريفييرا؟

وليست معروفة بالضبط درجة المساهمة الإسرائيليّة في تلك الخطط، لكنّ المؤكّد أنّ تلّ أبيب تجد في مبدأ «الهندسة الجغرافيّة» عموماً، الشيء الكثير الذي يناسب تصوّراتها عن غزّة والفلسطينيّين والتعاطي معهم. وقد سبق لرئيس حكومة إسرائيليّ سابق، هو إيهود أولمرت، أن رأى في أحد تلك المشاريع «معسكر اعتقال للفلسطينيّين».

ففي طريقة النظر هذه تختبئ عناصر عدّة، بينها التعاطي مع البشر ككائنات فائضة عن الحاجة، واللهاث وراء الأرباح التي يأتي بها التوظيفان العقاريّ والسياحيّ. لكنّ الشيء الآخر الذي يثير الشهيّة الإسرائيليّة هو محو الماضي. فاستجابةً لصرخة الحرب الدارجة اليوم، ومفادها: هبّوا إلى المستقبل على جناح إلى التقنيّة، يتحوّل التاريخ صفراً ويغدو كلّ شيء مساوياً لكلّ شيء على نحو تترفّع عنه رؤوس البطاطا.

وهذا جزء لا يتجزّأ من الوعي الإسرائيليّ القاضي بجعل الماضي أمراً نسيّاً منسيّاً. وقد تأسّس الوعي المذكور على تجربة 1948 التي سمّاها الإسرائيليّون استقلالاً وطنيّاً وكفى الله المؤمنين القتال. أمّا أن تكون تلك التجربة إيّاها نكبة للمنكوبين الذين هُجّروا من ديارهم فهذا ما ينبغي نسيانه. وبدل مواجهة ذاك الماضي، تحوّل توسّع اليمين الإسرائيليّ وتراجع فرص السلام سبباً لمدّ هذا النسيان على التجارب اللاحقة وآخرها التوحّش منقطع النظير في غزّة.

لكنْ على الضدّ من هذه النظرة، لا تزال النظرة الغالبة عند الفلسطينيّين، وإلى حدّ بعيد العرب، الرجوع إلى ماضٍ مسدود ومقدّس يُستحضر عند كلّ تناول للنزاع. فالأكثر تعقّلاً ومعرفة يرجع إلى وعد بلفور وسايكس بيكو بوصفهما لحظات التأسيس. أمّا الأقلّ تعقّلاً ومعرفة فتكرّ به، في مهاوي الزمن، عجلات بلا مكابح، فلا يتوقّف قبل بَني قريضة أو غزوة خيبر.

وقد سبق للحركات الموصوفة بـ«مناهضة الكولونياليّة» أن درّجت تسبيق كلّ تناول للولايات المتّحدة والسياسات الأميركيّة بحديث عن «إبادة السكّان الأصليّين»، أي «الهنود الحمر»، أو في أحسن الحالات عن حرب فيتنام في الستينات وأوائل السبعينات.

وما هو ضامر في تلك المقاربة أنّ النزاع السياسيّ لا يعود بين فريقين، بل يغدو صراعاً يخوضه الضحايا ضدّ «طبيعة جوهريّة» لطرف لا يُحلّ الخلاف معه إلاّ بالإلغاء والإبادة. ذاك أنّ العطل، والحال هذه، كامن في أصل ما، وكلمة أصل هي التي اشتُقّت منها كلمة أصوليّة.

وفي مقابل النظريّة الإسرائيليّة في إنكار الأصول، تقف النظريّة الفلسطينيّة والعربيّة في التترّس بالأصول عند كلّ تماسّ مع الواقع الحيّ.

والأسوأ عمليّاً أنّ مقاربة العالم أصوليّاً لا تقول الكثير عن اليوم والراهن، فيما القليل الذي تقوله يصدّ الأبواب أمام كلّ غد سياسيّ. فهي غالباً ما تأتي مصحوبة بالتهليل، أو أقلّه بالتبرير، لعمليّة 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وليس بلا معنى ارتكاز تبريرها على «الأصول» التي «ينبغي» الرجوع إليها قبل أيّة محاكمة لـ7 أكتوبر. وهي تالياً إذ تدين، بحقّ، حرب الإبادة الإسرائيليّة، تمتنع عن الإقرار بحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها حيال تلك العمليّة أو أيّة عمليّة قد تشبهها. وهي، إلى ذلك، لا تخاطب الإسرائيليّين مُنكرةً، ضمناً أو علناً، أنّ ثمّة مستقبلاً سوف يُبنى معهم، شئنا وشاؤوا ذلك أم أبينا وأبوا. وهي، ومنذ انقشاع أفق الهزيمة في غزّة وفي لبنان، لم تخاطب «حماس» أو «حزب الله» ولم تطالبهما برمي سلاح باتت وظيفته الوحيدة إطالة عمر الموت وإضعاف الموقع التفاوضيّ، الضعيف أصلاً، حيال الإسرائيليّين.

فهناك إذاً مَن يتذكّر أكثر ممّا يجب ويبني العالم على تذكّره، ومَن ينسى أكثر ممّا يجب ويبني العالم على نسيانه. والتذكّر هنا قويٌّ قوّة النسيان هناك، علماً بأنّ السلوكين، أي التذكّر والنسيان، انتقائيّان إلى أبعد الحدود.

وعلى النحو هذا لا يبالغ من يقول إنّ هذه المنطقة وسكّانها مصابون بتأويلين متضاربين لا يملكان من العلاجات سوى تعميم التعاسة، واحدهما يعسكر في مستقبل لم يسبقه ماضٍ وآخر يضرب وتده في ماضٍ لا مستقبل بعده.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فلسطين مستقبل بلا ماضٍ وماضٍ بلا مستقبل فلسطين مستقبل بلا ماضٍ وماضٍ بلا مستقبل



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 13:35 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء
  مصر اليوم - استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt