توقيت القاهرة المحلي 07:21:59 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الأصوليّة الهندوسيّة وإرث غاندي السلمي

  مصر اليوم -

الأصوليّة الهندوسيّة وإرث غاندي السلمي

بقلم : إميل أمين

ما الذي يحدث في الهند بلد المائة مذهب ديني وطائفي وأكثر، دولة غاندي التي عُرِفت بالتسامح والتصالح وقبول الآخر مهما اختلف في التوجه الإيماني والوجداني؟
خلال الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، شهدت الهند ما لم يكن أحد يتوقّعه، فقد طالب راهب هندوسي بحمل السلاح وقتل جميع المسلمين، في تحريض واضح وفاضح على سلوك العنف كطريق للحياة في دولة كانت مناراً للديمقراطية حتّى وقت قريب.
ففي كلمة ألقاها خلال مهرجان ديني للهندوس بمنطقة «هاريدوار» بولاية «أوتاراخند»، ارتفعت مجموعة دعوات تحضّ على الإبادة الجماعية للمسلمين وممارسة العنف ضدهم.
كلمات الراهب الذي اعتلى المنصة تصيب الجميع بالصدمة؛ إذ قال في خطابه الموجّه للجماهير: «ليس لدينا خيار، السلطة والمواطنون والسياسيون يجب أن يخرجوا بالأسلحة ويبدأوا في قتل المسلمين مثل ميانمار».
في الوقت نفسه كان الهندوس أنفسهم، أو لنكن أكثر تدقيقاً، فريقاً أصوليّاً منهم يوجه لكماته وكلماته القاتلة للمسيحيين الهنود، وهذا ما رصدته صحيفة «نيويورك تايمز» في قراءة أخيرة لها.
هل نحن بالفعل أمام أوضاع تفقد فيها الديمقراطية الهنديّة ما كان لها من ألق وصيت كبيرين طوال نحو سبعة عقود ونيف؟
يُخشَى أن يكون ذلك كذلك، وهو ما أشارت إليه الصحافيّة ياسمين سرحان في تقرير لها نشرته مجلة «ذي أتلانتيك» الأميركية ذائعة الصيت، حول تدهور الديمقراطية هناك، وبخاصة تحت حكم رئيس الوزراء ناريندرا مودي، وتستعرض الكاتبة هذا التدهور من خلال تتبّع وضع الصحافية الهندية رنا أيوب، التي تضيِّق عليها السلطات الهندية تضييقاً كبيراً يصل إلى تشويه سمعتها ونشر بياناتها الشخصية عبر الإنترنت لتخويفها.
يمكن للمرء أن يستطرد كثيراً جدّاً في سرد الأحداث التي تعرَّض لها المسلمون والمسيحيون في الهند خلال الأشهر القليلة الماضية. والمثير أن السلطات الهندية لم تتخذ ما يكفي من إجراءات لردع الفاشيين الذين يقفون وراء تلك المذابح والحرائق التي لا تليق بالإرث السلمي للهند العظيمة التي خَلَّفها المهاتما غاندي من ورائه.
ما الذي جرى على وجه التحديد لتتحوّل الهند من إرثها السلمي للتعايش الواحد إلى هذا الوضع؟ ولا ينسى المرء في تساؤله أن الهنود في الفترة ما بين 2002 و2007 كانوا قد اختاروا رئيساً مسلماً هو المهندس أبو بكر زين العابدين عبد الكلام.
الثابت أن العلمانية كانت هي حائط الصدّ الذي جَنَّبَ الهند حالة التشظّي الطائفيّ، وإعادة إطلاق سيرة الهويّات القَبَليّة، كما أنّه من المعروف أنّ الدستور الهندي ينصّ على أنّ الهند «دولة علمانيّة»، غير أنّ الأحزاب السياسيّة في الآونة الأخيرة دأبتْ على العزف على الأوتار الدينيّة والطائفيّة، واعتبرتْها أدوات استقطاب سياسي ومعياراً رئيسياً لاختيار المرشَّحين، والتقرب كذلك من الناخبين.
تبدو الهند بدورها، كما الكثير من البقاع والأصقاع حول العالم، ضحيّة لصعود القوميّات وارتفاع وتيرة الشعبويّات، الأمر الذي مضى بالهند في طريق التزمّت الآيديولوجي والدوغمائيّات المكتوبة، عوضاً عن رحابة التلاقي المعرفي والإنساني.. هي حالة نراها في أوروبا وأميركا، وحتى في عالمنا العربي.
هل الهند في حاجة إلى تقليب أوراق غاندي مرة أخرى في حاضرات أيّامنا، علّها تخرج من أزمتها المعاصرة، والتي يمكن أن تتفاقم في روحها الداخليّة، الأمر الذي يمكن أن يقودها في طريق العتمة مرّة أخرى، وهي التي تحرَّرت منه عبر سلميّة غاندي وبعيداً عن أي أفعال عنف أو قسوة، اضطهاد أو صدام؟
لم يكن غاندي، الهندوسي الديانة، بعيداً عن بقيّة الأديان وبخاصّة التوحيديّة منها، إذ يقول عن الفترة التي أمضاها في أثناء سجنه: «قرأتُ في السجن الكثير من الكتب لأول مرّة، كنت في العادة أبدأ في الصباح بقراءة الجيتا، وأخصّ منتصف النهار لقراءة القرآن، وفي المساء أقرأ الكتاب المقدّس مع أحد الصينيين المسيحيين».
ظلّ غاندي يتابع البحث في كلّ ما يقرأه، ويتناول الأديان جميعاً ويدرس تعاليمها ومبادئها، وهو النهج الذي درج عليه منذ نشأته وتبعاً لتقاليد أسرته.
أعطى غاندي في حياته أعظم الأمثلة للتسامح والصفح والغفران، فعلى سبيل المثال حينما اعتدى عليه أحد المسلمين المتشدّدين في سنة 1908. رفض تقديم المعتدي إلى المحكمة، وفي الوقت نفسه الذي وقع فيه الاعتداء عليه حَذَّرَ أنصاره من اتّخاذ أي خطوة ضدّ المعتدي، وهو يرقد دامي الجرح بقوله: «إن الرجل لم يكن يدري ما هو صانع؛ فقد ظنّ أنّي مخطئ فيما أصنع، وقد حاول إصلاح ذلك بالطريقة الوحيدة التي يعرفها، ولذلك أطلب ألّا يُتَّخَذ أي إجراء ضدّه، وإني أصدّقه وسأُحبّه وأكتسبه إلى صفّي بالحب. ماذا كانت نتيجة تصرّف غاندي؟
الشاهد أنه في السنة التالية أرسل هذا المعتدي إلى غاندي رسالة يؤكّد فيها له مشاركته الوجدانية واحترامه العميق، وتعهد أنه سيبذل أقصى جهده لانتصار أفكار غاندي رجل السلام ورسول المحبّة.
على الهندوس اليوم أن يتأمّلوا اليوم سيرة ومسيرة غاندي الذي اعتقد دوماً وآمن أبداً بأنّ الحب هو السلاح الوحيد الذي يُقاوَم به الشرّ، وقد هوجم واعتُدِي عليه من الغوغاء مرّات عدّة، وكاد يقضي نحبه في إحدى هذه المرات، ولكنّه لم يكن ليغضب على المعتدين. وقد سُجِنَ أربع مرّات، ولم يحنق يوماً على سَجّانيه، ولا يبدي أي لون من ألوان الامتعاض أو الكراهية، بل كان يوصي زملاءه من المسجونين بألا يعتبروا حرّاس السجن أعداء لهم، بل ينظروا إليهم كأنّهم إخوة، ويقول: «إن حسن معاملتنا لحرّاس السجن ينتزع من نفوسهم سوء الظنّ والصرامة».
في رسالة بعث بها أديب روسيا الكبير ليو تولستوي إلى تلميذه غاندي عام 1909، حين كان الأخير يدرس في لندن، يصف ضمير روسيا حال العالم وقتها بأنه «معركة بين اللين والقسوة، وبين الوداعة والحب، ضدّ الكبرياء والعنف». هل يمتدّ المشهد إلى حال عالمنا المعاصر حيث القوّة الخشنة هي صاحبة الصوت الأعلى، فيما أصحاب القوة الناعمة والودعاء لا يرثون الأرض؟
الهند في كل الأحوال أمام اختبار حيوي ومصيريّ، وليس أنفع أو أرفع لها من أن تعيد قراءة سيرة غاندي اليوم وغداً وإلى ما شاء الله.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأصوليّة الهندوسيّة وإرث غاندي السلمي الأصوليّة الهندوسيّة وإرث غاندي السلمي



GMT 02:47 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

المخل وخلانه

GMT 02:43 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

زهرات عنيفة

GMT 02:29 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

الانتخابات الأوروبية كاشفة للأزمات والتغيرات

GMT 02:26 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

حياة المدنيين: البقاء للأجدر بالعدالة!

GMT 02:23 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

صناعة النفط في نمو مطرد

الأميرة رجوة تتألق بفستان أحمر في أول صورة رسمية لحملها

عمان ـ مصر اليوم

GMT 04:38 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

زيلينسكي يوجه "رسالة" إلى إسرائيل بشأن حرب غزة
  مصر اليوم - زيلينسكي يوجه رسالة إلى إسرائيل بشأن حرب غزة

GMT 05:31 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل 4 رهائن محتجزين في غزة
  مصر اليوم - الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل 4 رهائن محتجزين في غزة

GMT 00:52 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

سلمى أبو ضيف تشارك في مهرجان بالم سبرينج الدولي
  مصر اليوم - سلمى أبو ضيف تشارك في مهرجان بالم سبرينج الدولي

GMT 22:59 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

انهيارات ثلجية تودي بحياة 4 أشخاص في النمسا

GMT 13:29 2021 الأحد ,24 كانون الثاني / يناير

أول تعليق من مدير مدرسة حدائق شبرا الإعدادية بنات

GMT 03:52 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

تعرف على موقع شراء تذاكر كأس العالم للأندية في قطر

GMT 07:46 2021 الأحد ,17 كانون الثاني / يناير

توقعات برج الميزان لعام 2021 مع جومانة وهبي

GMT 18:38 2021 الجمعة ,15 كانون الثاني / يناير

مختار مختار يضع خطة إنقاذ ميركاتو الشتاء في الإنتاج

GMT 20:44 2021 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

خبير يطالب بتوفير فطر "الترفاس" المتواجد في صحراء مطروح

GMT 05:49 2021 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 11 يناير/كانون الثاني 2021

GMT 22:56 2021 السبت ,02 كانون الثاني / يناير

بوفون أفضل حارس في التاريخ بشهادة أساطير العالم

GMT 16:13 2020 الثلاثاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

معوض الخولي يؤكد أن جامعة المنصورة تضع خطة لتوعية المجتمع

GMT 20:17 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

تركي آل الشيخ لن يعود إلى السعودية حاليا

GMT 00:22 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

البورصة العراقية تغلق التعاملات على تراجع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon