توقيت القاهرة المحلي 09:27:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "3"

  مصر اليوم -

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين 3

د. مصطفى يوسف اللداوي
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

المفاوضاتُ ليست عيباً ولا تفريطاً، وليست ردة ولا خيانة، وليست اعترافاً وقبولاً، أو خضوعاً وخنوعاً، أو تنازلاً واستسلاماً، بل هي إن جرت على أصولها، وحافظت على ثوابتها، وتمسكت بشروطها، ولم تقدم تنازلاً يخل بها أو تقبل بشروطٍ تقيدها وضوابط تكبلها، فإنها تكون شكلاً من أشكال المقاومة، ووسيلةً من وسائل النضال، وقد تحقق بذكاء المفاوضين وحنكة الممثلين، وثباتهم على مواقفهم وإصرارهم على حقوقهم، وعنادهم في سبيل غاياتهم، ما عجزت عن تحقيقه البندقية، وما فشلت في الوصول إليه القوة.

ولست هنا أتحدث عن القضية الفلسطينية التي لا ينطبق عليها المثال، ولا يتشابه معها الحال، فهي لا تخضع للتجربة، ولا يجوز فيها المغامرة أو المجازفة، فالمفاوضات الفلسطينية مع العدو خيانة، وهي تفريطٌ وتنازلٌ، وهي مدعاة للخسارة والفقد، والتسليم والاعتراف، وهي تشريعٌ للغاصب وتقنين للمحتل، وهي تحريضٌ للآخرين للتقليد وتشجيعٌ لهم للتشبه، وتبريرٌ لهم للجريمة، فلا يجوز في قضيتنا الفلسطينية اللجوء إليها والقبول بها أصلاً وحكماً، شرعاً وقانوناً، ووطنية وقومية، فكيف الحال بعد التجربة الطويلة والمحادثات الفاشلة، والوساطات الكاذبة، والنتائج المشوهة والواقع المرير، الذي أنتجته سنوات الحوار والمفاوضات، وخلقته أوسلو وبقية الاتفاقيات، التي أثبتت عقمها وأظهرت فشلها، وأكدت على أصل بطلانها.
 
لكن حركة طالبان التي ما زلت أرى وجوب وأهمية دراسة تجربتها، وتقييمها من مختلف الاتجاهات، كونها التجربة الأحدث والأقرب إلينا والأكثر تأثيراً علينا، بعيداً عن تأييدها والإشادة بها كما يظن البعض ويعتقدُ، فهي لم تظهر حسناً بعدُ، ولم تبدِ تغيراً لافتاً أو تبدلاً حقيقياً، وإن كانت تبدو أنها على الطريق نحو التغيير الحقيقي لا الشكلي أو الظاهري، ولعل تجربتها تفيدنا كثيراً انطلاقاً من واقعها المرتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر سند الكيان الصهيوني وحاميةً له، إذ أنها وبكل الوجوه والاحتمالات والتصورات والخيالات، قد تمكنت من فرض إرادتها على الإدارة الأمريكية وأرغمتها، وأجبرتها على تقديم تنازلاتٍ موجعةٍ، ما كانت تظن يوماً أنها ستقدم عليها وستتنازل عنها.
 
صحيحٌ جداً أن دولة قطر هي التي سعت وبادرت، وعملت واشتغلت على إحداث شرارة التفاوض وتحقيق اللقاء بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان التي تستضيفها، ولكنها ما كانت لتقدم على هذه الخطوة لولا الموافقة الأمريكية، بل تأييدها ومباركتها إن لم أقل أنها هي التي طلبت وتمنت، وأنها التي سعت وحاولت، فحركة طالبان التي تتهم بأنها خشبية العقل جامدة السياسة، متطرفة الفكر متشددة السلوك والممارسة، ما كانت لتفكر يوماً بالجلوس على طاولة المفاوضات مع قاتلها ومحتل أرضها، وخالق فتنتها وصانع أزماتها، ولكنها وجدت نفسها أخيراً تقبل بالعرض الأمريكي، وتوافق على الخيارات المطروحة أمامها على الطاولة.
 
لكن الحركة التي قبلت بالمفاوضات، ووافقت على الحوار، وضعت جملةً من الشروط والتعهدات، وألزمت الولايات المتحدة بالتعامل معها والاستجابة لها، فهي لم توقف القتال أبداً، واستمرت في عملياتها النوعية ضد أهدافٍ أمريكية وحكومية، ولم تكن تسكت عن أي خرقٍ يقع من الجانب الأمريكي أو الحكومي دون أن ترد عليه بقوةٍ وعنفٍ، ورفضت مطلقاً القبول بوقف العمليات القتالية من طرفها ما لم توقف الولايات المتحدة الأمريكية وكل حلفائها جميع عملياتهم العسكرية، وهو ما تحقق على الأرض بالفعل.
 
اشترطت حركة طالبان على المفاوضين بالنيابة، وعلى الأصلاء في الحوار، وجوب الإفراج عن آلاف المعتقلين من عناصرها من سجون ومعتقلات الحكومة الأفغانية، ولم تباشر حوارها حتى رأتهم يخرجون من السجون، ولا يتعرضون للتضييق والملاحقة، حتى ولو التحقوا بمجموعاتهم المقاتلة على الجبال وفي الجبهات، ولم تقبل بمحددات الحكومة وشروطها، ولا بقوائمها وأسمائها، وإنما وضعت على الطاولة كشفاً بأسماء جميع المعتقلين، وأصرت على الإفراج عنهم جميعاً، وهو ما تم بالفعل.
 
لم تقتصر شروط طالبان على الأمريكيين بوجوب الضغط على حكومة كابل التي ترعاها، وإنما طلبت منهم الإفراج عن معتقليها في سجون باكستان وغوانتانامو، وهو ما تم بالفعل بالصورة والصوت، إذ أن مفاوضي حركة طالبان، كانوا هم أنفسهم السجناء في السجون الأمريكية الأصلية أو بالوكالة، وهم الذين انتقلوا إلى الدوحة، وجلسوا على طاولة المفاوضات، وطرحوا شروطهم، وحددوا مسارهم، وألزموا بها عدوهم.
 
لا شك أنه كان للإدارة الأمريكية شروطٌ مقابلة، ربما يكون بعضها سرياً ولم يكشف عنه بعد، لكن الأحداث الراهنة وتوالي الأيام أظهرت أن شروطهم كانت فقط في ضمان خروج قواتهم الآمن من أفغانستان، وعدم التعرض لهم وللمتعاونين معهم والراغبين في مغادرة البلاد خوفاً منهم، والالتزام بعدم الاقتراب من مطار كابل حتى يتم خروجهم الكامل من البلاد، ولعل هذا الشرط لا يدل على عزة طالبه بقدر ما يدل على خوفه وقلقه، فالولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت تنازلاتٍ مقابل شرطها، ما كانت لتحققه بقوتها، ولو كانت تستطيع ما أقدمت على تمريغ أنفها، وتعريض سمعتها للنقد، وتوجيه اللوم الشديد لإدارتها ورئيسها على ما أطلقوا عليه "الخروج الفوضوي الذليل".
 
إن دولةً عظمى مدججة بكل أنواع الأسلحة، ومزودة بأحدث التقنيات العالمية، تهين نفسها وتلطخ سمعتها، وتتنازل عن ترسانتها العسكرية، بكل ما فيها من معسكرات وثكناتٍ وآلياتٍ ودباباتٍ وطائراتٍ ومروحياتٍ ومعداتٍ وتجهيزاتٍ وغيرها، يشير بوضوحٍ إلى أن مفاوضها الذي نجح في الميدان، واستعلى في القتال، قد نجح أيضاً في المفاوضات، وأخذ أقصى ما كان يتمنى، ولعله قدم تنازلاتٍ لشعبه، وتعهد بالالتزام لصالح بلاده، ووعد بالمشاركة السياسية وضمان حقوق الإنسان، وليس في هذا تنازلٌ مهينٌ ولا خضوعٌ مذلٌ، بل هو تأكيدٌ لعزة المقاوم، وترجمة لإرادة الواثق بالنصر والمصر عليه والساعي إليه.

 

     قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين 3 دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين 3



GMT 02:56 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

«حماس» 67

GMT 02:50 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

نهاية مقولة «امسك فلول»

GMT 02:30 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الإعلام البديل والحرب الثقافية

GMT 02:26 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

«الدارك ويب» ودارك غيب!

GMT 02:11 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الاستثمار البيئي في الفقراء

أيقونة الجمال كارمن بصيبص تنضم لعائلة "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 16:30 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

نادين نجيم تكشف عن علامتها التجارية الخاصة
  مصر اليوم - نادين نجيم تكشف عن علامتها التجارية الخاصة

GMT 16:02 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها
  مصر اليوم - طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها

GMT 18:29 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

طلعت زكريا يفاجئ جمهوره بخبر انفصاله عن زوجته

GMT 12:07 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

كيفية تحضير كب كيك جوز الهند بالكريمة

GMT 09:10 2018 الأربعاء ,15 آب / أغسطس

"الهضبة" يشارك العالمي مارشميلو في عمل مجنون

GMT 10:56 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

النسخة العربية للعبة كابتن تسوباسا

GMT 14:08 2018 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

أوستراليا تسجل أدنى درجة حرارة خلال 10 سنوات

GMT 01:41 2018 الإثنين ,28 أيار / مايو

تريزيجيه يدعم محمد صلاح بعد الإصابة

GMT 22:03 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

السبب العلمي وراء صوت "قرقعة الأصابع"

GMT 08:14 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

محلات flamme تعرض مجموعتها الجديدة لشتاء 2018

GMT 18:05 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

"مازدا" تطرح الطراز الجديد من " CX-3 -2017"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon