بقلم - محمد المخزنجي
هل يمكن أن يكره الكائن من ينظفه، من يخلصه من طفيليات تزعجه وتمص دمه، وهل تصل الكراهية في هذه الحالة إلى درجة قتل المُنظِّف، بل قتله بطريقة بالغة الحقد والقسوة؟
نعم يمكن، وهو ما يجسده مصير طائر «نقار الثور أحمر المنقار» الذي يسحقه أحد الحيوانات التي ينظفها، وهو ليس وقفا على الثيران التي اقترن اسم هذا الطائر بها، فهو ينقر لينظف طائفة واسعة من الثدييات الكبيرة، التي تنتشر بسهول السافانا جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، ومنها الأفيال، والزراف، والخراتيت، وجاموس الكاب، وحُمُر الزرد.
لقد اعتبر علماء سلوك الحيوان عمل هذه الطيور جميلا ونبيلا، حتى إنهم كرَّموه بمصطلح يعكس معنى تقدير الرقي في تكامل الكائنات الحية مع بعضها البعض، فيما سموه «مبدأ التشارُك» القائم على تبادل المنافع، فنقارو الثور يُخلِّصون الحيوانات من مصاصي دمائهم، قُرادا كانوا أو براغيث أو غيرها، وهي إفادة، ويحصلون على طعامهم مما يحصدونه من مصاصي الدماء بكل ما يحملونه من دم منهوب لم يعد ممكنا إعادته لعروق أصحابه، وهي استفادة.
وقد ظل هذا التصور المثالي عن مبدأ التشارك ساريا حتى توافرت وسائل رصد ميداني متعمق وصبور لعمل هذه الطيور في مراتع زبائنها، خاصة وقد خضعت مساحات كبيرة من مناطق السافانا البرية للزحف البشري من قرويين أخذوا يستوطنون تخومها، ولوحظ أن هذه الطيور تقبَّلت العمل مع مواشي هؤلاء القرويين، فكانت الملاحظة البشرية الميدانية أوفر، وألصق، وأدعى لمد مفاجآتها إلى ملاحظة عمل تلك الطيور مع زبائنها التقليديين في البراري.
كان يُظن أن ثدييات البراري الكبيرة تتضايق أحيانا من هذه الطيور المُنظفة عندما تعمل على وجهها وقرب عيونها، فتنفض رؤوسها بعنف لتبعدها. وكان يُظن أن ارتماء بعض هذه الحيوانات على الأرض وهي تحمل بعض هذه الطيور على ظهرها وأجنابها فتسحقها تحت ثقل أجسامها الضخمة، إنما هو عمل عفوي لا يُقصد به قتل هذه الطيور المُنظِّفة، فهو تحقيق لرغبة هذه الحيوانات في التقلب على الأرض لهرش أجسادها التي تحكها دون إمكانية أخرى لتهدئة هذه المعاناة. لكن المناظير المقرِّبة للباحثين في سلوك الحيوان فاجأتهم بتفاصيل خطيرة ومريرة.
كان معلوما أن بعض الطفيليات مصاصة الدماء تحفر في جلود الحيوانات المُبتلاة بها خدوشا تصير شقوقا تدميها فتمتص الطفيليات من دمها أيسر وأغزر، كما أن التهاب أماكن مص الدم كان يسبب إدماءً ذاتيا عرَضيا أثناء تجريف مناقير هذه الطيور لهذه البؤر الملتهبة، وكان أقصى الظن أن عمل المناقير الحمراء في هذه الشقوق هو تجريف للطفيليات التي فتحت هذه الشقوق وبالتبعية حملت في تجريفها بعضا من دم الحيوان الذي أسالته الطفيليات، وهو ما لم يتوقف أمامه المراقبون القدامى بالشك. لكن ملاحظات جديدة تواترت على ألسنة القرويين عن علاقة هذه الطيور بجواميسهم وأبقارهم جعلت الباحثين يدققون النظر عبر مناظير شديدة التقريب، فيذهلهم أن الأمور ليست بتلك البراءة التي ظنوها من قبل.
أثبتت الملاحظات المُدقَّقة الجديدة أن طيور النقار حمراء المناقير كانت بخبث شديد لا تكتفي بتجريفٍ جائرٍ للشقوق الدامية التي أحدثتها الطفيليات في جلد الحيوان، بل تُميل مناقيرها المبططة والمصممة للتجريف الأفقي الآمن، فتجعل حواف المناقير رأسية وتعمل كما شفرات تشق في جلود الحيوانات جروحا جديدة تنزف دما طازجا تُجرِّفه المناقير الحمراء بنهم. وحلَّ تساؤل جديد: هل ارتماء الحيوانات المفاجئ على الأرض وتمرغها هو فعل قصدي يتعمد قتل هذه الطيور التي تدميها عن عمد وتمتص دمها بما يؤلمها ويستهلك قواها، أم أنه نوع من السلوك الجنوني الذي يضرب أدمغة الحيوانات فجأة لأسباب خفية، كما كان يُظن، ولا يزال يظن، فأيسر تفسير لانفجارات عنف الحيوان، وحتى الإنسان، هو: الجنون!
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع