في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989 انهار جدار برلين، سقطت معه منظومة الدول الاشتراكية تباعاً، زلزال جيوسياسي هز خرائط العالم، انتهت الحرب الباردة، بانتصار ساحق للمعسكر الغربي الليبرالي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، على المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق.
ثمة ظواهر خرجت من رحم الأحداث، المشهد له ملامحه الخاصة، ظهر المبشرون الجدد بعالم جديد عنوانه القطب الأوحد، واحد من هؤلاء المبشرين الكاتب والمفكر والفيلسوف الأميركي من أصل ياباني، فرنسيس فوكوياما، بكتابه الشهير «نهاية التاريخ... والإنسان الأخير» حاملاً رسالة وحيدة تؤسس لعالم تحكمه الليبرالية الاقتصادية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، عالم لن تنازعه أي أفكار أخرى من عينة الأفكار الاشتراكية أو القومية، أو الدينية.
التف العالم الجديد حول أفكار فوكوياما. بدت أفكار النظرية آنذاك لامعة وبراقة، صدقت نبوءته في المراحل الأولى لتشكيل ملامح القطب الأوحد. أميركا رفعت شعار «الأستاذ». سيطرت على الاقتصاد والعالم، أمسكت بمفاتيح القرار الدولي، ولم تغفل توسيع نفوذها السياسي والاستراتيجي والعسكري. قدم منظروها، وفي مقدمتهم هنري كيسنجر، وبريجنسكي، وبول كيندي، النصيحة للإدارة الأميركية بسرعة استثمار اللحظة خلال التمدد والتوسع في المحيطات والبحار، وملء الفضاء الذي أخلاه الاتحاد السوفياتي بعد انهياره.
يقظة الحلم الأميركي بالقطب الواحد لامست الواقع. واشنطن تذهب بعيداً لتصفية الحسابات مع الخصوم القدامى، أو حلفائهم، جاءت الضربة الأولى من نصيب العراق. وضعت بصماتها على النظام الدولي، والأحلام تزداد في بنك الأهداف الأميركية، شهية القطب الواحد نجحت في التهام معظم دول حلف «وارسو»، منحتها أختام حلف «الناتو». تربعت على موازين القوى الاقتصادية التي منحتها القدرة السياسية، وهيأت العالم للقبول باتفاقيات، تعمق من هيمنتها على الاقتصاد العالمي مثل اتفاقية «الجات»، ومنظمة التجارة العالمية، والتجارة عبر المحيط الهادي وغيرها.
ظن البيت الأبيض أن هذه الطريقة، هي الخلطة السرية للحفاظ على استمرار القطب الأوحد، فتبنى مفهوم المحافظين الجدد، القائم على فكرة القرن الأميركي الوحيد، من خلال أفكار مثل الحرب العالمية على الإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ثم نشر أفكار الثورات الملونة، وصولاً إلى ما يسمى الربيع العربي.
الرياح لم تأتِ بما تشتهيه سفينة القطب الأوحد، ثمة عواصف وأنواء هددت إبحارها في الاتجاه نفسه، عادت روسيا بعد أن استجمعت قواها، وأطلت الصين بحلة جديدة. ولم تبتعد عنهما كثيراً الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، حلم جديد، وقطب حديث، تكتل يقودنا إلى عالم جديد عابر للقارات. «بريكس» يتحدث... الحروف الأولى من أعضائه تعيد تشكيل رحلة جديدة ليس من بين صفحاتها أفكار فوكوياما، أو بريجنسكي، وليس مسموحاً في مقاعدها بجلوس المحافظين الجدد.
تكتل له قواعد مغايرة وأهداف بعيدة المدى، يضم أكثر من 40 في المائة من سكان العالم، ويشكل نحو 26 في المائة من الاقتصاد العالمي، هذا التكتل بات حلماً يتسع من دولة إلى أخرى، خمس دول أعضاء هي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، الطريق مفتوحة لانضمام نحو 22 دولة جديدة من بينها 7 دول عربية.
سباق نحو قضية جديدة، تفرضها المتغيرات السياسية العالمية المتلاحقة، وتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية وجائحة كورونا، وما نتج عنهما من أزمة اقتصادية عالمية، تعد الأكبر منذ الكساد العظيم الذي ضرب العالم في ثلاثينات القرن الماضي. العالم تعلم الدرس جيداً، لا يمكن أن نفعل الشيء نفسه ونصل إلى نتائج مختلفة، لم يعد لدى دول الجنوب رفاهية التأمل وإعادة الحسابات، بنوك المستقبل لا تعترف سوى بالقرارات الشجاعة، مظلة واشنطن باتت بها ثقوب عديدة، لا يمكنها حماية الذين يستظلون بها.
«بريكس» طوق النجاة ومخرج آمن لمن ذرفوا دموعهم أسفل جدار برلين، ومشروع عملاق لإعادة الاعتبار لمن تمسكوا بعدم الانحياز. فحلم «بريكس» يمنح الجرأة السياسية والاقتصادية، والتحول إلى استخدام وتقوية العملات الوطنية والمحلية في التجارة البينية بين الدول الأعضاء، والاستقلال عن المؤسسات النقدية الغربية، كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ونادي باريس، والتحول إلى بنك التنمية الجديد، وصندوق التحوط التابعين لـ«بريكس»، فضلاً عن خلق مساحات أرحب للأسواق الاقتصادية، التي تمنحها امتياز تبادل السلع والبضائع والخدمات فيما بينها.
نجاح هذا التكتل، ربما تؤكده أرقام التبادل التجاري خلال العقدين الماضيين، وقد زادت بنسبة 300 في المائة.
إذن نحن أمام دروس مستفادة من تجربة القطب الأوحد، وأمام إرادة قوية لدخول تجربة جديدة، مثل «بريكس» تقودنا إلى عالم جديد، متعدد الأقطاب، ينحاز للمصالح المجتمعية، ليس للآيديولوجيات الكلاسيكية التي تنطلق من فكرة اليمين أو اليسار، ومن ثم، فإن انهيار جدار برلين، قد يقودنا إلى انهيار جدار القطب الأوحد.