توقيت القاهرة المحلي 12:42:55 آخر تحديث
  مصر اليوم -

جعلوها ديمقراطية

  مصر اليوم -

جعلوها ديمقراطية

بقلم - حلمي النمنم

عقب نجاح ثورة ١٩ وإقرار الدستور (١٩٢٣)، خاضت مصر تجربة سياسية توصف بأنها «شبه ليبرالية»، استمرت طوال ثلاثين عامًا، حتى إلغاء ذلك الدستور بقرار من اللواء محمد نجيب سنة ١٩٥٣، تراوحت التجربة بين صعود وهبوط.. تقدم حينا وتراجع حينًا آخر، تعددت الضغوط فيها، أهمها ضغوط وتدخلات السفارة البريطانية، خاصةً سنة ١٩٢٤ بعد اغتيال السير لى ستاك، وكذلك سنة ٤٢، أزمة ٤ فبراير الشهيرة، وهناك قوى مناوئة للتجربة الوطنية برمتها اصطنعتها بريطانيا.

والحق أن ما جعل منها تجربة ديمقراطية فى عمومها، رغم الضغوط البريطانية، أحزاب الأقلية والقصر الملكى، دورهما هنا، لا يقل بل يكاد أن يسبق دور حزب الأغلبية (الوفد).

فى تقييم هذه التجربة انصب كثير من الانتقادات على القصر الملكى فى المقام الأول وتدخله فى العملية السياسية ثم أحزاب الأقلية، لكن بات واجبًا مراجعة ذلك الموقف.

أثناء الثورة وبعدها امتلك سعد زغلول، حتى رحيله، صيف سنة ١٩٢٧، كاريزما طاغية، حتى قيل «لو رشح الوفد حجرًا انتخبناه»، وقيل أثناء الثورة، لحظة الخلاف حول التفاوض مع الإنجليز بين زعماء الثورة «الاحتلال مع سعد، خير من الاستقلال مع عدلى»، المقصود عدلى يكن، الذى سيصبح رئيسا لحزب الأحرار الدستوريين.

بإزاء هذه الخلفية والموقف الشعبى، كان يمكن لمن اختلفوا مع سعد وخرجوا من الوفد أن يصيبهم الإحباط، فيبتعدوا عن العمل العام والدور الوطنى، أو تهون عزيمتهم وتضعف إرادتهم، فيتجنبوا خوض أى معركة انتخابية، ذلك أن النتيجة محسومة سلفًا ولا احتمال لدى أى منهم فى الفوز أمام أى مرشح للوفد، حتى لو كان خامل الذكر وبلا تاريخ سابق، هناك عشرات الحالات تؤكد ذلك.

وكان سعد زغلول حادًا وقاسيًا فى تعبيراته ضد خصومه، بليغا، بارعا فى صك مصطلحات تدينهم وتصير أقرب إلى كليشيهات خاصة بهم، تجعلهم موضع تندر وسخرية فى الشارع وبين عموم المواطنين، من ذلك قوله عمن يتفاوضون مع الإنجليز «برادع الإنجليز».. أو «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس» وهكذا، لكنهم رغم كل ذلك لم ينسحبوا من العمل العام ولا أصابتهم هجمات سعد عليهم بالغم والنكد، بل كانوا يردون ويشرحون مواقفهم وتصوراتهم لكل مشكلة وتفنيدا لكل هجوم.

فهم أصحاب فضل كبير فى صدور تصريح ٢٨ فبراير ٢٢، هم كذلك من صاغوا الدستور. وصف سعد لجنة الدستور بأنها «لجنة الأشقياء»، مع ذلك منح الشعب المجد كله لسعد، الزعيم من جانبه تعامل بالدستور وعلى أساسه فور اعتماد الملك فؤاد له وتناسى حملاته السابقة عليه وهم كذلك.

باختصار تجنبوا «الامتعاض السياسى»، وما جلسوا يجترون الألم والولولة، العمل السياسى لا يقوم وفق شيك على بياض، بل ممارسة، تجاذب وتضاغط ومن ثم تداول.

كانوا يرون ضرورة خوض الانتخابات لذاتها، بغض النظر عن النتيجة المتوقعة، فضلًا عن أن أجواء الانتخابات لا تبقى ساكنة أو ثابتة، ومع تراكم الخبرة من التجارب تتكون ممارسة، تصير من معالم الحياة السياسية وتصير جزءا من الثقافة السياسية للمجتمع كله وليس نخبه فقط، الأقلية تعترف بما لدى الأغلبية وما تحصل عليه، وتؤمن كذلك بضرورة أن تكون موجودة وتمارس حقها فى المعارضة، وتمتلك مشروعا وطنيًا وسياسيًا خاصًا بها.

تناضل من أجله وقد يكون وجودها خارج السلطة أقوى وأفيد للبلاد، وعدم امتلاك الأغلبية يعفيها مما قد تضطر له من إرضاء الجميع، حتى لو كان نفاقًا للجمهور. هم لا يرون أنفسهم ديكورا فى مشهد، بل جانب أصيل منه، إذا كانوا فى المعارضة عارضوا، وإذا شاركوا فى الحكومة أو قاموا هم بتشكيلها، لم يعتبروا ذلك مكافأة لهم ولا رشوة سياسية ولا مكايدة فى خصومهم، بل راحوا يعملون على برنامجهم السياسى والفكرى.

تأمل- مثلًا- معركة الخلافة العثمانية ومن يرثها، سنة ١٩٢٤، استطاع «الأحرار الدستوريين» خوضها بعيدًا عن حزب الأغلبية وضد رغبة الديوان الملكى والملك شخصيا، وكان الملك مدعومًا كليًا من المؤسسة الدينية؛ ورغم بعض الخسائر التى منى بها حزب الأحرار الدستوريين، لكن كسبوا المعركة وتراجع الملك فؤاد عما زينه له البعض، من أحقيته شخصيًا بأن يكون خليفة المسلمين.

بطل هذه المعركة كان القاضى الشرعى على عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، فصل الشيخ على وسحبت منه شهادته العلمية، ثم دارت الأيام دورتها فرد إليه اعتباره، وشهادته العلمية عادت إليه ثانية وصار وزيرا للأوقاف فى الأربعينيات، هو من استحدث إنشاء مكتبات بالمساجد الكبرى وصيانة ما بها من مخطوطات، وهو تقليد تلتزم به الوزارة إلى يومنا هذا.

وإذا عدنا إلى تفاصيل تلك المرحلة تجد العديد من الخطوات والمشاريع المهمة قامت بها حكومات الأقلية، كورنيش الإسكندرية أنشأه إسماعيل صدقى باشا، الذى ألغى دستور ٢٣، واستبدل به دستور سنة ٣٠، جامعة الإسكندرية، كان اسمها جامعة فاروق، تأسست فى عهد حكومة الأحرار الدستوريين، كان وزير المعارف بها هو محمد حسين هيكل، صاحب رواية زينب.

وكان الدستور يمنح الملك حق إقالة الحكومة لأسباب يحددها، حتى لو كانت تمتلك أغلبية برلمانية، وكثيرا ما استعمل هذا الحق الملك فؤاد ثم نجله الملك فاروق من بعده، فى بعض الحالات تم ذلك بضغط عنيف من الخارجية البريطانية، ويرى كثير من الدارسين أن التوسع فى استخدام ذلك الحق حرم حزب الأغلبية مرارا من حقه فى تشكيل الحكومة، ومن الاستمرار مدة طويلة فى الحكم، وللوهلة الأولى يبدو ذلك صحيحًا، لكن ماذا لو لم يكن لدى الملك هذا الحق؟، وماذا لو أنه لم يقدم على استخدامه؟.

على الأغلب كان الوفد سوف يحتفظ بتشكيل الحكومة ثلاثة عقود متتالية، ونعيش ديكتاتورية الأغلبية وتحكمها، وهو ما حدث فيما بعد زمن الحزب الوطنى الديمقراطى وكذلك زمن الاتحاد الاشتراكى، والحق أن من يدرس حزب الوفد من داخله وتعدد الأجنحة به وصراعات أطرافها، يجد أوجه شبه مع كل من الاتحاد الاشتراكى زمنى عبدالناصر والسادات، ثم الحزب الوطنى فى أواخر عهد السادات وكل عهد مبارك؛ أجنحة متعددة ومتضاربة.

لقد هوجم الملك كثيرا، بعد تنازله عن العرش، بسبب إقالته حكومات الوفد، ولم يقل أحد إنه لم يخالف الدستور فيما فعل، ولم يشر أحد إلى أن النخب السياسية لم تحاول ولا طرحت تعديل الدستور، تعاملوا معه كنص مقدس، رغم أن الممارسة كشفت عن أهمية التعديل، بعد الحرب العالمية الثانية ارتفع صوت المرأة للمطالبة بحقوقها السياسية وغير ذلك من أمور أخرى، باختصار تصرف الملك فى حدود الدستور.

نعم كان الشارع مع الوفد وصحت مقولة «لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه»، لكن النخب الفكرية والثقافية والسياسية كانت مع أحزاب الأقلية، كان لديها مشروع متكامل، يختلف فى بعض جوانبه وتفاصيله عن مشروع الأغلبية، مثلًا كان الاستقلال التام، حلما وهدفا للجميع.

لكن كيفية الوصول إليه وأدوات الوصول كانت مختلفةً، قضايا الحريات وتحقيق العدالة، كانت كذلك مختلفة، فى بعض الأوقات بدا أن أحزاب الأقلية أشد حرصا على إقامة العدالة الاجتماعية ومجانية التعليم، وزارة الشؤون الاجتماعية تأسست فى عهد على ماهر، الوفد من جانبه استوعب هذا الأمر، بدا ذلك واضحا بشدة فى حكومته الأخيرة.

باختصار التجربة شبه الليبرالية وشبه الديمقراطية بعد ثورة ١٩، لعبت أحزاب الأقلية وكذا القصر الملكى دورًا فى بنائها وتحقيقها، إلى جوار حزب الشارع والأغلبية.

المعارضة ليست ديكورا ولا وجاهة اجتماعية، كما أنها ليست مزايدة على الأغلبية، ولا تسخيفا من كل ما يجرى، باختصار ليست مزاحا ولا تهريجا، بل مسؤولية وطنية فى المقام الأول، إلى جوار المسؤولية الاجتماعية والسياسية. هذا ما عرفه تاريخنا، حزب الأمة إلى جوار الحزب الوطنى زمن الزعيم مصطفى كامل، وحزب الأحرار والحزب السعدى والكتلة إلى جوار الوفد زمن سعد زغلول ومصطفى النحاس.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جعلوها ديمقراطية جعلوها ديمقراطية



GMT 03:48 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

قلنا: تفكير.. قالوا: تحصين وتكفير

GMT 03:47 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

فتح ملف الصناعة (١) «القانون هو الحل»

GMT 03:45 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

حسام حسن غلط فى دوري!!

GMT 03:36 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

د. أسامة السعيد.. هل يصبح خليفة سعيد سنبل؟!

GMT 03:25 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

«الجن» برىء من الحرائق

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:30 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

طريقة إعداد ورق عنب مع كوسا وريش

GMT 08:40 2014 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

التونة والدجاج تساعدان في زيادة خصوبة الزوجين

GMT 08:42 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

ريم البارودي تبدو أنيقة في بدلة وردية اللون

GMT 05:38 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الدكتور محمود الموجي يُبيّن أسباب رائحة الفم الكريهة

GMT 20:55 2014 الخميس ,14 آب / أغسطس

استقرار اﻷوضاع اﻷمنية في شوارع الأقصر

GMT 05:44 2015 السبت ,03 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل مربى التفاح بالقرفة

GMT 16:29 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شركة سكودا تطلق الجيل الجديد من موديل سوبيرب

GMT 11:12 2021 الجمعة ,03 أيلول / سبتمبر

حمو بيكا يدعم طفلة مريضة سرطان ويقدم لها هدية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon