توقيت القاهرة المحلي 09:28:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اليسار المعاصر وفخ الهوية

  مصر اليوم -

اليسار المعاصر وفخ الهوية

بقلم - نديم قطيش

يُشرِّح كتاب ياشا مونك «فخ الهوية: قصة الأفكار والسلطة في عصرنا»، واحدةً من أبرز الآيديولوجيات الليبرالية المعاصرة، التي تقوم على فكرة الهوية معياراً للعدالة الاجتماعية والسياسية. يتعمق مونك في رصد أزمات الديمقراطية الليبرالية من هذه الزاوية «الهوياتية» التي تزعم، في عالم اليوم، احتكار الحق بتعريف ما هو تقدمي وما هو عكس ذلك.

ميزة مونك أنه يلج إلى هذه المساحة الفكرية من موقع الانحياز التام لمبادئ العدالة الاجتماعية، على خلاف الأطروحات الأخرى التي أخذت مناحي يمينية محافظة، فجاء طرحها المضاد مغلقاً وصارماً وصلباً، تماماً كالآيديولوجيا الهوياتية التي يرفعها خصومه في معسكر اليسار المعاصر.

تقوم الأطروحة المركزية لـ«فخ الهوية» على نقد ما يسميه مونك «تركيب الهوية»، أي التوجه الذي يجعل من هوية المجموعة، أكانت عرقية أو جندرية، أو تتعلق بالخيارات الجنسية، نقطة ارتكاز للحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، الأمر الذي، حسبه، أوقع اليسار في شرك الانقسامات الحادة والصراعات القبلية التي قوّضت أهداف العدالة الاجتماعية التي تزعم هذه الآيديولوجيا السعي إلى تعزيزها.

فالإفراط في التركيز على هوية المجموعة يخلق بيئة متنافرة تقوم فيها علاقات الأفراد البينية على معيار هوية المجموعة، لا على خصائصهم الفردية، على نحو يعزز الأحكام المسبقة بين المجموعات ويزيد من حدة الانقسامات. فعندما تصبح الهوية هي محور النشاط السياسي والاجتماعي، غالباً ما يؤدي ذلك إلى تفاقم التوترات بين المجموعات المختلفة، حيث تشعر كل مجموعة أن اهتماماتها وهوياتها المحددة يتم المبالغة إما في التركيز عليها أو في تجاهلها.

تمهد هذه المناخات الطريق أمام علاقات اجتماعية موبوءة محكومة بديناميات الضحية والجلاد، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى تصنيف صارم للأفراد إما «كظالمين» أو«كضحايا» بناءً على هويتهم الجماعية.

ولئن كانت قضايا العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية معقدة ومتعددة الأوجه، فإن النظر إليها من عدسة هويات المجموعات يؤدي إلى المبالغة في تبسيطها، والنظر إليها حصراً من خلال منظور العرق أو الجنس أو علامات الهوية الأخرى. ومن الممكن أن يتجاهل هذا التبسيط عوامل حاسمة أخرى مثل الطبقة، أو الآيديولوجية السياسية، أو التجربة الفردية، مما يؤدي إلى استعجال وضع حلول ناقصة غالباً ما تنحرف عن معالجة جذور الأزمات وتكتفي بإجراءات تجميلية واسترضائية.

لا يتجاهل مونك في كتابه أهمية الاعتراف بأوجه عدم المساواة والظلم الممنهجة التي تواجهها أو واجهتها الفئات المهمشة، لكنه يحذر بشكل صارم مما يسميه «الانفصالية التقدمية»، التي أوصلنا إليها فائض التركيز على خطاب الهوية، وأدى تقويض المبادئ العالمية للديمقراطية الليبرالية. يذهب نقد مونك لآيديولوجيا الهوية إلى أبعد من النظرية، مستعرضاً الآثار العملية لها في مختلف مجالات الحياة. من السياسات التعليمية إلى مبادرات الشركات واستراتيجيات الصحة العامة، يوضح كيف تغلغلت الممارسات التي تركز على الهوية في هذه المجالات، وغالباً ما كانت لها عواقب غير مقصودة ومثيرة للخلاف. وفي هذا الصدد يحشد مونك الكثير من الأمثلة على ما يحذر منه، مثل الفصل بين الطلاب على أساس العرق في إحدى مدارس أتلانتا، أو ما يسمى التمييز الإيجابي الذي يعطي الطلاب من أصول أفريقية الأفضلية على نظرائهم البيض في بعض الجامعات، أو سياسات الصحة العامة المثيرة للجدل خلال جائحة «كوفيد - 19»، التي أعطت الأولوية لعلامات الهوية على استراتيجيات الصحة العامة الأوسع.

ويرصد الكتاب بنباهة، الأصول الفكرية لهذه الآيديولوجية، متتبعاً جذورها إلى نظريات ما بعد الحداثة ورفضها الوسواسي حتى للحقائق الموضوعية، ونظريات ما بعد الاستعمار وهوسها بتفكيك خطاب الهيمنة، والنظريات العرقية النقدية التي تعمق فهم العالم من خلال عدسة هوية الجماعات بشكل شبه حصري. ومع اعترافه بالرؤى الواقعية التي قدمتها هذه النظريات، يؤكد مونك أن تطبيقها كان في كثير من الأحيان متطرفاً وأدى إلى نتائج عكسية.

وإذ يعترف مونك بأن التحول نحو السياسات التي تركز على الهوية حصل بناء على فتوحات علمية مرموقة، سلطت الضوء على جوانب مهمة لبعض تجارب العنصرية الهيكلية والممنهجة، ككتابات مفكرين مثل ديريك بيل وكيمبرلي كرينشو، إلا أنه يحذر من الاستسهال والاختصار الذي ميز التعامل مع طروحاتهم المعقدة، على نحو أدى إلى توظيف أفكارهم بطرق تختلف بشكل كبير عن هدفهم الأصلي.

أهمية الكتاب تكمن في النقد الثاقب الذي يقدمه مونك عندما يناقش آثار آيديولوجيا الهوية على الديمقراطية الليبرالية. ولعل أبرز ما يشير إليه الكاتب هو ما أفرزته آيديولوجيا الهوية من هيكليات تعزز الرقابة، والتعصب الأخلاقي، والاستهزاء بالمؤسسات الديمقراطية، أي خلاف كل ما تدعي الديموقراطية الليبرالية السعي لتحقيقه.

يقدم «فخ الهوية» استكشافاً مثيراً للتحول الكبير الذي طرأ في العقود الأخيرة على الفكر التقدمي المعاصر، وانحرافه نحو منطقة تعيق الوصول إلى عدالة اجتماعية سليمة بدلاً من خدمتها.

وتتسم دعوة مونك للعودة إلى القيم العالمية والإنسانية كالمساواة والحرية والعدالة للجميع، براهنيتها، من خلال فحص ما يحيط بنا من انفجارات هوياتية قاتلة، لا سيما أنها دعوة، وهي تنقد تعصب الهويات، تحاذر تجاهل تعقيدات الهوية ودورها في التأثير على قضايا العدالة الاجتماعية والخطاب السياسي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اليسار المعاصر وفخ الهوية اليسار المعاصر وفخ الهوية



GMT 01:42 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

التوريق بمعنى التحبير

GMT 01:38 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

مَن يحاسبُ مَن عن حرب معروفة نتائجها سلفاً؟

GMT 01:34 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

كيسنجر يطارد بلينكن

GMT 01:32 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

غزة وانتشار المظاهرات الطلابية في أميركا

GMT 01:29 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

من محمد الضيف لخليل الحيّة
  مصر اليوم - أحمد حلمي يكشف أسباب استمرار نجوميته عبر السنوات

GMT 10:05 2017 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

الثروة الحقيقية تكمن في العقول

GMT 13:33 2019 الثلاثاء ,12 آذار/ مارس

أفكار بسيطة لتصميمات تراس تزيد مساحة منزلك

GMT 00:00 2019 الأحد ,17 شباط / فبراير

مدرب الوليد يُحذِّر من التركيز على ميسي فقط

GMT 12:26 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

تدريبات بسيطة تساعدك على تنشيط ذاكرتك وحمايتها

GMT 20:58 2019 الإثنين ,07 كانون الثاني / يناير

مؤشر بورصة تونس يغلق التعاملات على تراجع

GMT 16:54 2018 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

"اتحاد الكرة" يعتمد لائحة شئون اللاعبين الجديدة الثلاثاء

GMT 15:16 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

وزارة "الكهرباء" تستعرض خطط التطوير في صعيد مصر

GMT 19:26 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

أمن الجيزة يكشف عن تفاصيل ذبح شاب داخل شقته في منطقة إمبابة

GMT 22:47 2018 الجمعة ,31 آب / أغسطس

أمير شاهين يكشف عن الحب الوحيد في حياته

GMT 00:49 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

أيتن عامر تنشر مجموعة صور من كواليس " بيكيا"

GMT 04:18 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

اندلاع حريق هائل في نادي "كهرباء طلخا"

GMT 22:56 2018 السبت ,02 حزيران / يونيو

فريق المقاصة يعلن التعاقد مع هداف الأسيوطي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon