توقيت القاهرة المحلي 11:40:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الحضور المتجدد لثورة 1919

  مصر اليوم -

الحضور المتجدد لثورة 1919

بقلم - جمال أبو الحسن

ذهبتُ لمشاهدة فيلم «كيرة والجن» مع ابنتى. الفيلم من تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، ويتناول بطولات المقاومة الشعبية المصرية إبان ثورة 1919، متكئًا على شخصيات منسية من التاريخ المصرى، على رأسها «عبدالحى كيرة»، المناضل ذو السيرة الفريدة، الذى وصفه يحيى حقى فى كتابه «ناس فى الظل» هاربًا متخفيًا فى تركيا، قبل أن يصل إليه الإنجليز، وينتهى به الحال مقتولًا
الإقبال الجماهيرى الكاسح على الفيلم حدث لافت (الإيرادات تخطت حتى الآن 70 مليون جنيه). فى الفيلم من عناصر الإبهار والإثارة والتشويق ما يجذب المشاهدين، فهو، فى جوهره، «فيلم حركة» جيد الصنعة من الناحية السينمائية، متقنٌ فى تناول التفاصيل المختلفة، وطَموح للغاية من الناحية الإنتاجية (الميزانية تجاوزت 100 مليون جنيه). على أن شيئًا ما، جوهريًّا، يظل غائبًا عن هذا الفيلم الكبير؛ إذ رغم أنه ينجح فى الاحتفاظ بمُشاهده فى حالٍ من الترقب واللهاث خلف المطاردات والمعارك المختلفة، متعاطفًا مع أبطاله من الوطنيين المصريين ومشفقًا عليهم من الأخطار التى تتهددهم والموت الذى يتربص بهم فى كل ركن، فإن هذا المُشاهد نفسه يخرج من الفيلم من دون أن تتولد لديه حالة الاندماج الوجدانى مع الشخصيات أو الفهم لدوافعها والتعاطف الواعى مع القضية التى يناضلون من أجلها. هذا ما رصدتُه من تعليقات ابنتى ذات الخمسة عشر عامًا.

ليس سهلًا على الإطلاق أن ينجح عملٌ فنى فى صناعة وجدان وطنى وبث تعاطف حقيقى مع قضية كبرى، خاصة لو كانت قضية بعيدة عن المشاهد زمانيًّا مثل التخلص من الاحتلال الإنجليزى. غير أن للسينما المصرية باعًا طويلًا فى هذا المضمار. فيلم «فى بيتنا رجل» (1961، إخراج هنرى بركات) يُعد نموذجًا فذًّا فى هذا الباب. نجح الفيلم، عبر الحبكة فى الأساس، فى خلق حالة من التعاطف الكامل مع الشخصيات. ليس فقط مع الشخصية الرئيسية للمناضل الوطنى (إبراهيم حمدى، أو عمر الشريف فى الفيلم)، وإنما أيضًا مع شخصيات أخرى أعطانا مُبررًا مقبولًا لتطور مواقفها، مثل شخصية رب الأسرة (حسين رياض)، الذى تحول من «المشى جنب الحيط» إلى اتخاذ مواقف شجاعة تعاطفًا مع قضية المناضل الذى يقوم بعمليات ضد الإنجليز. الإثارة والتشوق لم يغبا أبدًا عن هذا الفيلم، الذى نذكر جميعًا كيف تفاعلنا معه صغارًا لدى إذاعته فى التليفزيون، وكيف تصورنا أنفسنا مناضلين وفدائيين نعمل ضد الاحتلال مثل «عمر الشريف»!.

هذا التعاطف الوجدانى هو بالضبط ما يغيب عن «كيرة والجن»، الذى اختار المطاردات والعنف والتشويق بالحركة سبيلًا للاحتفاظ بانتباه المتفرج، دون أن يصرف جهدًا معتبرًا فى بناء الدوافع للشخصيات، أو إعطاء سياق عام مقنع لانفجار هذه الحركة المناوئة للاحتلال البريطانى فى مصر. مع ذلك، فحسب صناع هذا الفيلم طموحهم المحمود فى اختيار موضوع مثل هذا. وحسبهم ما أنفقوه من جهد ملموس فى العناية بالتفاصيل، والتركيز على ما يجذب المشاهد، خاصة من فئة الشباب، إلى عمل تدور أحداثه قبل مائة عام.

لطالما تفوقت السينما الأمريكية فى صناعة مثل هذه الأفلام التاريخية، معتمدة على إتقان الصنعة فى كافة التفاصيل البصرية. ومن الواضح أن أصحاب «كيرة والجن» أرادوا أن «ينقلوا» السينما المصرية نقلة مهمة بالدخول فى هذا المضمار، متسلحين بالطموح والرغبة الواضحة فى الإتقان. ما غاب عنهم- ربما- هو أن جوهر التفوق الأمريكى فى هذه الصنعة ليس الإبهار البصرى، بقدر ما هو الحبكة المحكمة القادرة على إثارة وجدان المشاهد، وانفعاله مع الشخصيات، وتعاطفه الكامل معها.

والحال أن العودة إلى ثورة 1919 صارت أقرب ما تكون إلى ظاهرة فى الوسط الثقافى والفنى المصرى. «كيرة والجن» فى الأصل مأخوذ عن رواية للكاتب أحمد مراد بعنوان «1919»، صدرت قبل سنوات قليلة، وقد كان صدور الرواية وإقبال الناس عليها، بخاصة من قراء «مراد» من فئة الشباب، أمرًا لافتًا كذلك. ولو أننا فتشنا فى سر هذا الحضور المفاجئ والمُدهش لهذا الحدث المؤسس فى التاريخ المصرى الحديث، ورغم انقضاء قرن من الزمان على وقوعه، لوجدنا أن الأمر لا يتعلق فحسب بدور الثورة المشهود فى بناء حركة وطنية جامعة ضد الاستعمار.

الحضور الأهم للثورة فى المسيرة الوطنية المصرية يتعلق فى حقيقة الأمر بدورها فى صناعة مفهوم الأمة الوطنية الحديثة. هذا المعنى يُمسك به، ويعرض له على نحو بديع ومركز، المؤرخ المصرى صاحب الإنتاج النوعى المؤثر، «شريف يونس»، فى كتاب بعنوان «ثورة 1919: نشأة وتبلور الأمة المصرية»، صدر مؤخرًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «ذاكرة الكتابة». فى الكتاب، ربما، العنصر الذى يفتقده فيلم «كيرة والجن»، وهو التعريف بالسياق المُعقد الذى دارت فيه أحداث هذه الثورة ووقائعها، والذى أدى فى النهاية إلى «انفجار» الشعور الوطنى المصرى على هذا النحو الذى فاجأ الجميع.

يُذكرنا «يونس» فى الكتاب بوضع مصر الفريد، كولاية عثمانية تحت حكم وراثى لأسرة محمد على، بإشراف وضمان أوروبى فى إطار معاهدة لندن 1840. ثمة سلطة شرعية، وأخرى فعلية، وبينهما نشأت هوية وطنية مصرية مأزومة ومُنقسمة منذ البداية. تخلّقت بذور هذه الهوية الخاصة فى رحم الثورة العُرابية التى حملت شعار «مصر للمصريين»، ولكن الأمر انتهى بالاحتلال البريطانى.

يرصد «يونس» هذه النشأة المرتبكة لمفهوم الأمة المصرية فى الحركات التى ظهرت تحت الاحتلال. كان هناك حزب الأمة، الذى ضم عددًا من الأعيان المصريين، والذى انطلق من أرضية التفاهم مع السلطة الفعلية (بريطانيا)، مع الضغط عليها للحصول على مشاركة أكبر فى الحكم، والعمل على تقييد سلطة الخديو باعتبار أن السلطة المطلقة هى سبب تأخر البلاد، وسبب وقوعها فى الديون فى عهد إسماعيل. ومن ناحية أخرى، كان هناك الحزب الوطنى الذى رأى أن الاستعمار البريطانى هو العدو الأساسى، وحتى لو حقق الاحتلال تقدمًا فى مجالات كثيرة، فإنه يظل احتلالًا: «إن الأغلال تظل أغلالًا، ولو كانت من ذهب»، كما قال مصطفى كامل. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لتُعطى بريطانيا فُرصة الانفراد الكامل بمصر عبر فرض الحماية. لما انتهت الحربُ، تدافعت الأحداث- على نحو غير متوقع- لتضع «الأمة المصرية» لاعبًا فعليًّا بين الاحتلال والخديو. اندلاع ثورة 1919، والحال هذه، لم يكن مجرد نضال ضد الاستعمار، بل كان فى حقيقة الأمر «المرجل» الذى تخلقت فيه «فكرة الوطن الحديث»، أو الأمة، فى مصر. قبل هذه الثورة كان المصريون مجرد أناسٍ يسكنون إقليمًا، ولكنهم لم يعرفوا أنفسهم كأمة، لها كلمة وإرادة تُعبر عن نفسها. عبقرية قائد الثورة سعد زغلول تكمن فى أنه كان الوحيد تقريبًا بين السياسيين المعاصرين للحدث الذى التقط هذا المعنى، وعبر عنه ودفع به وحوّله إلى حركة سياسية شعبية.

يصف «يونس» انفجار الثورة فى عبارة بديعة: «وُلدت ثورة 1919، مثل كل ثورة، بتداعى الأحداث تحت ثقل تراكم ضغوط الماضى، لتتدفق فى تفاعل متسلسل متجاوزةً مناوأة رافضيها، بل خطط مؤيديها والمشاركين فيها، لتشق طريقها الخاص. كانت الثورة أيضًا، مثل كافة الأحداث التاريخية الكبرى، أكبر من مجرد حاصل جمع أو طرح مساعى أطرافها وجهودهم».

كتاب يونس، وفيلم مروان حامد ومراد، يُمسكان- كلٌ على طريقته- بمعنى مهم: لا زالت ثورة 1919 حاضرة حضورًا مبهرًا فى الذاكرة المصرية، باعتبارها الحدث الأبرز والأشد تأثيرًا فى السياسة والثقافة فى مصر فى القرن الماضى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحضور المتجدد لثورة 1919 الحضور المتجدد لثورة 1919



GMT 20:57 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان

GMT 20:53 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عفونة العقل حسب إيلون ماسك

GMT 20:49 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا تناشد ‏الهند وباكستان تجنب «الانفجار المفاجئ»

GMT 20:45 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عودوا إلى دياركم

GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 09:39 2017 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

الإعلامية ناردين فرج تقدم برنامج "ذا فويس كيدز" 2017

GMT 01:25 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

حافظ على صحة قلبك والجهاز الهضمى بالعدس

GMT 10:43 2017 الإثنين ,22 أيار / مايو

أفكار وأكسسوارات مميزة لمطبخ رمضان الكريم

GMT 06:16 2015 الخميس ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة إيطالية حديثة تؤكّد أنّ "سرعة القذف" حالة نفسية

GMT 16:22 2017 الإثنين ,20 آذار/ مارس

10 نصائح لاختيار صندوق طعام طفلك المدرسي

GMT 08:31 2017 الأربعاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

محلات "vitrine" تطرح أحدث تشكيلة من ملابس الخريف

GMT 05:16 2017 الإثنين ,02 تشرين الأول / أكتوبر

مسلسلات وأفلام حكت عن حرب أكتوبر ورأي النقاد بها

GMT 06:59 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير التموين يعلن 80 مليار جنيه تكلفة دعم التموين والخبز
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt