توقيت القاهرة المحلي 05:24:54 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن السحر والذكاء الاصطناعى

  مصر اليوم -

عن السحر والذكاء الاصطناعى

بقلم - جمال أبو الحسن

هل ثمة علاقة بين الأمرين: ظاهرة السحر، والذكاء الاصطناعى؟
شركة DeepMind، ومقرها لندن، ربما تكون الأشهر فى مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى وتطبيقاتها المستقبلية. قامت الشركة من قبل بفتوحات مُذهلة فى هذا المجال تعتمد فى الأساس على ما يُسمى «التعلم العميق» أو «تعلم الآلة». يعنى ذلك ببساطة أن يكون باستطاعة الآلة أن تطور أداءها بنفسها وتتعلم أشياء معقدة يقوم بها البشر فى زمنٍ أقصر كثيرا، بحكم قدرتها الفائقة على معالجة الداتا وتحليلها. المثل الأشهر هنا هو لعبة Go، الأكثر تعقيدا بكثير من الشطرنج، والتى نجحت الشركة فى تطوير «الجوريزم» تمكن من تعلمها فى بحر ساعات، إلى حد هزيمة بطل العالم فى اللعبة فى 2017.

أعلنت DeepMind مؤخرا عن نجاحها فى التوصل إلى تطبيق للذكاء الاصطناعى يقترب مما يُعرف بـ «الذكاء الاصطناعى الشامل». تلك غاية يسعى وراءها الكثير ممن يعملون فى تطوير هذا المجال المستقبلى. برامج الذكاء الاصطناعى تنصَّب فى العادة على مهمة محددة دون غيرها. من ذلك مثلا تطبيقات الذكاء الاصطناعى الموجودة فى الهواتف النقالة، أو تلك التى تعمل بها محركات البحث على الإنترنت للتنبؤ بسلوك المستخدم. الحُلم الذى يُطارده عُلماء الذكاء الاصطناعى يتجاوز هذه المهام المحدودة، إلى إنتاج نوعٍ من الذكاء الرقمى الشامل الذى يعمل بصورة تُحاكى الذكاء البشرى فى كافة خصائصه.

الخاصية الحاسمة التى تُميز ذكاء البشر هى أنه يستطيع معالجة أى مشكلة تقريبا، وليس مشكلة بعينها. تدعى DeepMind أنها قطعت خطوة حاسمة نحو هذا الهدف بعمل تطبيق ذكاء اصطناعى يستطيع القيام بـ 600 مهمة مختلفة. على أن العُلماء الذين يُراقبون تطور هذا الملف يقولون إن هذه الخطوة مازالت بعيدة جدا عن هدف الذكاء الشامل الذى ينشده العاملون فى ذلك الحقل. لماذا؟.

الذكاء الاصطناعى يكشف، بطريق غير مباشر، عن الأوجه التى تُميز الذكاء البشرى. يحملنا على النظر إلى الطريقة التى نُفكر بها وتعمل بها أدمغتنا من زاوية جديدة. الحقيقة أن الذكاء البشرى لغزٌ عجيب وغامض. هذا الغموض ذاته هو ما يُفاجئ علماء الذكاء الاصطناعى ويُصيبهم بالحيرة، بل والعجز الكامل أحيانا، عند كل منعطف يتصورون عنده أنهم اقتربوا من حلم محاكاة الذكاء البشرى.

من الخصائص العجيبة للذكاء البشرى، مثلا، أنه يخترع «طرقا مختصرة». نحن لا نرى الواقع كما هو، وإنما تصنع عقولنا افتراضات عن الواقع، ثم نُفكر ونتحرك على أساسٍ من هذه «الاختزالات» والطرق المختصرة التى صنعتها عقولنا. هذه الافتراضات تنجح معظم الوقت، ولهذا نستخدمها. عندما نسير فى الطريق فإن عقولنا، بعكس برامج الذكاء الاصطناعى، لا تحسب كافة الاحتمالات ممكنة الحدوث للأشياء حولنا. نحن لا نصرف وقتا فى حساب للذرات والمسافات والكتل والأحجام، لكن نعمل افتراضا لحظيا فى جزء من الثانية أن هذه السيارة - مثلا- قد تصدمنا لو أننا عبرنا الطريق فى هذه اللحظة. من دون هذه الافتراضات اللحظية لم نكن لنستطيع العيش فى العالم. أدمغتنا مُصممة للعمل بهذه الطريقة. هى «تملأ الفراغات» لتكوين صورة متماسكة عن الواقع من أجل حل المشكلات المختلفة التى تواجهنا. السبب أن «القدرة الدماغية» البشرية، وبرغم إمكانياتها الفائقة، تظل لها حدود. نحتاج دائما إلى «طرق مختصرة» للتفكير واتخاذ القرارات السريعة. هذا ما يميزنا: الحس البدهى الذى ينطلق من عمل افتراضات مبسطة للواقع. هكذا يقوم لاعب التنس بتوقع مكان الكرة وحساب المسافات والأبعاد وقوة الضربة ومكانها.. هو يفعل كل ذلك فى جزء من الثانية. الذكاء الاصطناعى لا يعمل بهذه الطريقة، ولذلك يظل «اصطناعيا» وبعيدا عن حُلم الذكاء الشامل الذى يحتكره البشر.

لا شىء يكشف غرابة طريقتنا هذه فى التفكير قدر ظاهرة السحر. السحرة هم فى الواقع علماء نفسٍ بارعون فى فهم طريقة عمل الدماغ البشرى. هم يعرفون أننا نقوم بعمل افتراضات للواقع وطرق مختصرة لتصوره. ما يفعله الساحر هو استغلال الطريقة التى تعمل بها أدمغتنا، والنفاذ من «الفراغات» لخداعنا.

مثلا: عندما ننظر إلى طاولة من زاوية معينة ولا تظهر لعيوننا سوى ثلاث أرجل، فإننا لا نبحث عن الرجل الرابعة. نحن نفترض ببساطة وجودها، لأن أدمغتنا تقوم بعمل افتراضات سريعة ومبسطة عن الواقع. الساحر يعرف هذا. بالنسبة له، يمُثل هذا فرصة لاجتراح خدعة تقوم على الخداع البصرى! الساحر يعرف أيضا كيف نُركز انتباهنا على الأشياء. أدمغتنا لا يُمكن أن تنتبه إلى كل الأشياء فى نفس الوقت. ربما الذكاء الاصطناعى قادرٌ على هذا، لكن الدماغ البشرى لا يعمل بهذه الطريقة. نحن نصب تركيزنا وانتباهنا على «أجزاء من الواقع».. تلك التى نراها مفيدة لنا. مرة أخرى.. الساحر يعرف هذا. هو يتقن «اللعب» على انتباهنا. يعرف، مثلا، أن عيوننا تنظر إلى حيث ينظر هو. تلك هى فرصته لكى يُركز بصرَه على يده اليمنى، بينما يده اليُسرى تقوم بشىء آخر تماما. نحن نُطلق على هذا «خفة يد». فى الواقع، هو تلاعب بالدماغ البشرى، وبطريقة عمله.

السحر، بصوره المتعددة، قديمٌ للغاية. غير أن أساس عمله لم يتغير. الساحر البارع ينطلق من معرفةٍ بمناطق «القصور» فى عمل أدمغتنا. الحقيقة أن مناطق القصور هذه هى السر فى تفوقنا، بل هى الخاصية التى ميزت الذكاء البشرى ومكّنت الإنسان من التفوق على الكائنات الأخرى، وتوظيفها للعمل لصالحه، بل مكنته من تغيير البيئة المحيطة به على نحو ما وصلنا إليه اليوم.

يكشف السحر كذلك عن خواص أخرى عجيبة لدى البشر. نحن، ولغرابة الأمر، نحب السحر. نجد متعةً كبيرة فى الدخول فى تجربة نعرف مسبقاً أنها تنطوى على خداعٍ لنا. السحر ظاهرة خاصة جدا لأنها تجعلنا نرى أشياء حقيقية وغير حقيقية فى نفس الوقت. منبع الدهشة هو أننا نرى أمامنا أشياء نعرف، عقلا، أنها مستحيلة الوقوع، كشخصٍ يطير أو جسد يتقطع فى صندوق ثم يخرج سليما. يُداعب السحر جانبا خفيا فى عقولنا وأدمغتنا يتطلع إلى المستحيل. عندما نُشاهد الساحر فإننا، ولفترة قصيرة، ندلف إلى عالمٍ عجيب يصير فيه المستحيل ممكنا. هذا هو سر غرامنا القديم بهذه الظاهرة، وهو منبع ذات الغرام بالأشياء المستحيلة. أعظم المخترعات والمنجزات الإنسانية بدأت كرحلة إلى المستحيل.. كالصعود إلى القمر، أو شطر الذرة، أو اجتراح ذكاءٍ اصطناعى يُحاكى الذكاء البشرى!.

الذكاء الاصطناعى لا يُمكنه أن يفهم ظاهرة السحر. هذه الظاهرة تحدث، فقط، لأن أدمغتنا تعمل بطريقة تختلف كليا عن «تفكير الآلة». أدمغتا لا تعالج كما هائلا من الداتا فحسب، لكنها أيضا تخترع «الطرق المختصرة»، والأنماط، والافتراضات المبسطة. هى أدمغة تنبهر بما هو مستحيل وغرائبى، وتتطلع إليه، وتبحث عنه. هذه أشياء مازال الذكاء الاصطناعى بعيدا عنها. مازال هذا الذكاء أبعد من أن يكون «ساحرا»!.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن السحر والذكاء الاصطناعى عن السحر والذكاء الاصطناعى



GMT 03:16 2024 الجمعة ,03 أيار / مايو

الوضوء الوطني

GMT 03:14 2024 الجمعة ,03 أيار / مايو

مصفاة جديدة للنبوغ!

GMT 03:13 2024 الجمعة ,03 أيار / مايو

أرض الحرية.. ليست حرة

GMT 03:05 2024 الجمعة ,03 أيار / مايو

أصغر من أميركا

GMT 03:09 2021 الجمعة ,26 آذار/ مارس

طريقة عمل السلمون بالزبدة

GMT 23:17 2020 الأحد ,20 أيلول / سبتمبر

البورصة العراقية تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 01:33 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

"غوغل" تعلن عن 100 ألف منحة دراسية تعادل الشهادات الجامعية

GMT 10:57 2020 الثلاثاء ,16 حزيران / يونيو

3 طرق سريعة لتسليك مواسير مطبخك

GMT 10:22 2020 الأربعاء ,11 آذار/ مارس

قرار عاجل من محافظة القاهرة بسبب كورونا

GMT 02:06 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

أب يغتصب طفلته لمدة 4 أعوام في البرازيل

GMT 00:28 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

تخلص من اسمرار البشرة بمكونات طبيعية

GMT 22:30 2019 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

مؤشر الأسهم البريطانية يغلق على ارتفاع الاثنين

GMT 14:23 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

مصر تتسلح لـ"أمم أفريقيا" بـ23 لاعبًا بينهم 7 محترفين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon