توقيت القاهرة المحلي 13:01:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«صفقة القرن» بين إيران والصين

  مصر اليوم -

«صفقة القرن» بين إيران والصين

بقلم :عبدالله بن بجاد العتيبي

تدور «مفاوضات فيينا» في حلقة مفرغة، إذا كان المقصود منها أن تلتزم إيران ببنود الاتفاق النووي، بالإضافة إلى متطلبات دولية مستجدة تتعلق بالصواريخ الباليستية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ولكن واقعياً هي أقرب إلى مفاوضات لحفظ ماء الوجه للأطراف، مع تنازلاتٍ من الدول المشاركة فيها لإيران، تنازلاتٍ بطيئة مغلفة بعبارات تظهر الحدة اللفظية، ولا تعني شيئاً على الأرض.
عين الدول المشاركة في تلك المفاوضات منصبة على نفط إيران، وإعادة إحياء التجارة معها الذي لن يمر إلا عبر رفع العقوبات الأميركية الصارمة التي فرضتها الإدارة السابقة، ولذلك فثمة ما يشبه السباق لرفع هذه العقوبات بالحد الأدنى من التنازلات التي يمكن للنظام الإيراني عرضها على الطاولة.
هذه المفاوضات مستمرة، ولكن تم إعلان ما يمكن تسميته «صفقة القرن» بين إيران والصين، بحيث تستفيد الصين من موارد إيران النفطية التي تشبع تعطشها لضمان استمرار صعود اقتصادها الكبير، وتمد طريقاً جديداً لمبادرة الحزام والطريق الصينية الكبرى، عبر الوصول للخليج العربي، في توجهٍ جديدٍ يضمن بسط النفوذ السياسي عبر الشراكة، وهو منهج لم تكن الصين تتبعه من قبل. وبالتأكيد ستسعى الصين لطمأنة كل الدول المحيطة بإيران، وتقديم ضمانات صينية لها بإيقاف المغامرات الإيرانية غير المحسوبة في المنطقة.
من جهة النظام الإيراني، فإنَّ هذه الصفقة تمثل مخرجاً من العقوبات الأميركية القاسية التي فرضتها الإدارة السابقة، وتسعى الإدارة الحالية لتخفيفها، وتوفّر حماية صينية دولية للنظام. والمفارقة تكمن في أنَّ النظام الإيراني أقام شعاراته الرنانة على معاداة أميركا والغرب، وبعد أربعة عقودٍ يستسلم «الولي الفقيه» للشيوعيين الجدد المعنيين بالاقتصاد والتنمية، ويسلمهم خيرات البلاد لربع قرنٍ في المستقبل.
رحلة طويلة بين خطابات الخميني التي تتحدث عن الإسلام ووحدة المسلمين وبين استسلام خامنئي الأخير، وهي تطورات سياسية مفهومة لأي دولة سوى إيران، لأن إيران تقول إن قائدها يتحدث باسم «الإمام الغائب» و«المهدي المنتظر»؛ أي أنه يمثل ثبات الدين ورسوخ العقيدة، بينما هو يخضع لألاعيب السياسة، وبالتالي فهذا التحول سيسبب إشكالياتٍ خطيرة لأتباع النظام الإيراني المؤدلجين، سنة وشيعة، والعناد يورث الكفر.
تتلاشى الإمبراطوريات القوية تدريجياً، ولا تنهار مرة واحدة، وإذا كانت الصين ستصبح الإمبراطورية القوية الجديدة، في ظل تراجع الإمبراطورية الأميركية وحلفائها الغربيين، بناء على التنظير الأوبامي الانعزالي، وعلى المصالح الآنية الضيقة، فإنَّ مصالح الدول في المنطقة ستحتم عليها تكثيف العلاقات الجيدة مع الصين، ورفعها إلى مستوياتٍ أكبر وأكثر عمقاً.
الإمبراطوريات التي تتحوّل إلى حليفٍ غير موثوقٍ تخسر رهانات التاريخ ومعادلات الواقع وفرص المستقبل، والسياسة لا تعرف الفراغ، فثمة على الدوام من هو جاهزٌ لملء الفراغ وتعبئته، في عالم لا مكان فيه للمتخاذلين والعاجزين عن حمل الأعباء والمسؤوليات.
سيشهد العالم موجة جديدة من صعود الإرهاب العالمي وتمويله، في نتيجة طبيعية لأي رفعٍ للعقوبات عن إيران بمفاوضات فيينا، وسيعود للانتشار وتهديد المنطقة والعالم، لا بصيغته الأصولية العميقة التي تخسر في تركيا وغيرها، المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي، بل بصيغته المتوحشة المتمثلة في تنظيمات «القاعدة» و«داعش» و«حزب الله» و«جماعة الحوثي».
هذا أمرٌ بدأ بالفعل، ولم ينتظر نتائج فيينا، وتحدثت فرنسا عن بداية عودة تنظيم داعش للتحرك والتأثير في العراق وسوريا، وأكدت وزارة الدفاع الفرنسية للعربية أنَّ «تنظيم داعش عاد للظهور في العراق وسوريا». وقالت الوزارة إنَّ «تنظيم داعش انهزم جغرافياً، لكنه قادر على التحرك»، والمثل العربي يؤكد أنَّ اللبيب بالإشارة يفهم.
إحدى الاستراتيجيات الثابتة للنظام الإيراني هي «تطبيع تجاوزاتها»، بمعنى تحويل سياساتها العدائية تجاه دول المنطقة والعالم إلى أمرٍ طبيعي يحصل كل يومٍ وبشكل بطيء، ولكن أكيد المفعول، حتى لا يجد أحدٌ في العالم دافعاً لمواجهة تلك السياسات، أو لحظة تدفع باتجاه اتخاذ قرارٍ بالمواجهة.
الصين دولة عظمى في العالم، فهي دولة نووية لها مقعد دائمٌ في مجلس الأمن الدولي، وتمتلك حق «الفيتو»، وتستطيع المشاركة بفاعلية في تحريك العالم، لا عبر الآيديولوجيا بل من خلال المصالح، وهي دولة تستند لتاريخ عريق واقتصاد متين متصاعد، ولكنها تفتقر للمبادئ الأخلاقية المقنعة لدول وشعوب مختلفة، وهي لا تسعى لفرض أي ثقافة خاصة بها على أحدٍ، ولا تضع ثقافتها الخاصة وسياقها الحضاري حاكماً على تصرفات الدول والشعوب، وهذا نموذجٌ يختلف عن النموذج الغربي السائد في القرنين الأخيرين.
التجربة الصينية الحديثة تتحدث عن نموذجٍ خاصٍ من العهد الإمبراطوري إلى الزمن الشيوعي الذي شمل الانتصار وامتلاك الدولة، ثم «الثورة الثقافية» لماو تسي تونغ، ثم قدرة الصين على تجاوز الآيديولوجيا الثورية باتجاه الاقتصاد الناجح، مع عدم الاصطدام بالقوى الدولية، حتى في أثناء الحرب الباردة، وبالتالي بقيت الصين وانهار الاتحاد السوفياتي.
كان حكماء الصين القدماء يقولون: «إذا كنت تعرف كلاً من عدوك ونفسك، فإنك لن تنهزم في أي قتالٍ»، ويرددون: «يجب معرفة ظروف العدو مقدماً، إذ لا يمكن معرفتها عن طريق التنجيم». والدولة الصينية أثبتت قدرتها على اكتناز حكمة التاريخ، مع قدرة مذهلة على التجاوز والتطور، بعيداً عن أي معوقاتٍ اجتماعية أو ثقافية أو آيديولوجية، وتاريخها الحديث خير شاهدٍ.
التناقضات الإيرانية كبيرة متعددة الجوانب: بين الدين والسياسة، بين الدين والمذهب، بين العلاقة مع الغرب المسيحي العلماني والصين الشيوعية، بين الانخراط في المؤسسات الدولية جميعاً مع الإصرار علناً على الاستخفاف بها ورفض مبادئها وكسر قوانينها، ورسم هذه التناقضات بصفتها تعقيداتٍ لا نهائية يتمّ التلاعب بها في أي مفاوضاتٍ مع أي قوى دولية، وقد أثبت تاريخ الجمهورية الإسلامية أنها قادرة على النجاح في إنهاك أي مفاوضٍ، عبر إدخاله في هذه المتاهات والتعقيدات، وإبعاده عن غاياته الأصلية.
أخيراً، فمنطقة الشرق الأوسط منطقة حيوية للعالم بأسره، وهي ما زالت منطقة صراعٍ دولي دائم، ويتجدد. وقد بدأت أميركا وحلفاؤها الغربيون يقتنعون بالسماح للقوى الدولية الأخرى بالمشاركة والتدخل المباشر فيها، فدخلت روسيا إلى سوريا منذ سنواتٍ، وها هي الصين تتجه للدخول المباشر عبر إيران، وسيبقى التاريخ شاهداً وحكماً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«صفقة القرن» بين إيران والصين «صفقة القرن» بين إيران والصين



GMT 01:22 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 01:11 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 01:07 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 23:18 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تنظيم العمل الصحفي للجنائز.. كيف؟

GMT 23:16 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 01:52 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة
  مصر اليوم - منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 09:00 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أمامك فرص مهنية جديدة غير معلنة

GMT 09:36 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم الإثنين 20/9/2021 برج الدلو

GMT 13:21 2019 الأحد ,29 أيلول / سبتمبر

كيف ساعدت رباعية الاهلي في كانو رينيه فايلر ؟

GMT 03:35 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

فوائد الكركم المهمة لعلاج الالتهابات وقرحة المعدة

GMT 02:36 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

فعاليات مميزة لهيئة الرياضة في موسم جدة

GMT 04:38 2020 الثلاثاء ,25 شباط / فبراير

نجل أبو تريكة يسجل هدفا رائعا

GMT 12:42 2018 الثلاثاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ديكورات جبس حديثه تضفي الفخامة على منزلك

GMT 12:14 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

مجموعة Boutique Christina الجديدة لموسم شتاء 2018

GMT 11:46 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

الذرة المشوية تسلية وصحة حلوة اعرف فوائدها على صحتك

GMT 09:42 2020 الخميس ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك 4 مخاطر للنوم بعد تناول الطعام مباشرة عليك معرفتها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon