توقيت القاهرة المحلي 05:48:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

القوى النائمة!

  مصر اليوم -

القوى النائمة

بقلم: حسين شبكشي

يتفق علماء الاجتماع وخبراء السياسة حينما يقومون بوصف الدولة الحديثة بأنها الكيان الوحيد الذي له حق استخدام العنف، بشكل حصري ومطلق. وطبعاً تسخّر الدول لأجل تفعيل ذلك الأمر مواردها المالية والبشرية بشكل واسع وعريض. وسواء أكان ذلك في أجهزة الشرطة بكافة فروعها وأجهزتها لحماية وصون الجبهة الداخلية، أو في أجهزة الجيش بكافة قطاعاته لأجل حماية الجبهة الخارجية، ويقع كل ذلك تحت شعار الحفاظ على الأمن. وكل هذه الأدوات الغليظة هي ما اتفق على تسميتها دائماً بالقوى الخشنة.
وليست القوى الخشنة هي القوى الوحيدة في ترسانة الدول، ولكن هناك أيضاً قوى لا تقل أهمية في نفوذها وفاعليتها وتأثيرها، تتشكل من أدوات ووسائل غير تقليدية، مثل الفنون بكافة فروعها، كالأفلام والمسرح والتلفزيون والموسيقى والرواية والطهي والأزياء والرياضة والسياحة والثقافة والتراث والتاريخ والحرف، وجميعها عرف بمصطلح القوى الناعمة. والقوى الناعمة شهدت استثماراً واهتماماً هائلاً من دول مختلفة حققت لها عوائد اقتصادية هائلة، ووسعت من دوائر التأثير لها على الساحة الدولية بشكل أكثر تأثيراً وفاعلية.
وأعتقد أنه بالإمكان إضافة نوع ثالث من القوى التي لدى بعض الدول، وهي «القوى النائمة». تلك القوى التي لا تُدرك إلا بتفعيلها تماماً، كما حصل مع الصين ذات يوم.
في نهاية حقبة الأربعينات من القرن الميلادي الماضي، انطلق في الصين ما عرف بالثورة الثقافية، وهي ثورة شيوعية شديدة التطرف، بزعامة الزعيم التاريخي والثوري للصين ماو تسي تونغ، الذي كانت لديه قناعة هائلة ومطلقة أن ثورة الصين ستقلب حال البلاد، وسيتم تصدير التجربة المبهرة إلى سائر الدول المجاورة، وبعد ذلك إلى باقي دول العالم من دون استثناء.
لكن النتيجة الكارثية لتلك الثورة البائسة كانت تدمير الرقعة الزراعية، وتدهوراً كاملاً للقدرات الصناعية وانهياراً كلياً للاقتصاد الصيني.
وعندما توفي ماو تسي تونغ، قام الزعيم الصيني دنج زياو بينغ الذي خلفه بعمل ثوري حقيقي، وذلك حينما قرر أن تقبل هذه الدولة الشيوعية الكبرى العمل بنظام السوق الحر والانفتاح على الرأسمالية بشكل مفاجئ ومذهل، وكان هذا القرار التاريخي هو الذي أوصل الصين اليوم لتكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وفي طريقها للوصول إلى المرتبة الأولى. كان هذا القرار بمثابة مكالمة إيقاظ عنيفة أيقظت القوى النائمة للصين، وولّدت التأثير الهائل على الساحة الاقتصادية العالمية.
ولا يقتصر اكتشاف القوى النائمة على دول كبيرة بحجم الصين، فهناك المثل الآخر الذي لا يقل أهمية، والخاص بدولة أفريقية صغيرة بحجم رواندا، تلك الدولة التي شهدت في حقبة الثمانينات من القرن الميلادي الماضي إحدى أسوأ المجازر البشرية، بعد اندلاع حرب أهلية مدمرة بسبب التعصب والعبث القبلي والاقتتال البيني بين قبيلتي التوتسي والهوتو.
وبعد تلك المأساة الوحشية قررت رواندا أن تتبنى الحكم المدني، وأن يكون حكم القانون هو الذي يسري على الجميع، من دون النظر إلى قبيلة أو منطقة، وهذا التحول الهائل كانت نتيجته وصول رواندا اليوم إلى أهم معدلات النمو الاقتصادي في القارة الأفريقية، وجذب الاستثمارات الكبرى من أهم الشركات المتعددة الجنسية، من أمثال شركة فولكس واغن الألمانية، التي أقامت مصنعاً لسياراتها هناك، وشركة ديل لإنتاج الحاسب الآلي، وغيرهما. إنها القوى النائمة بعد إيقاظها.
وأصبحت بالتالي رواندا قصة تروى ومثالاً يحتذى لسائر الدول الأفريقية الأخرى.
وما يحدث في السعودية منذ فترة من الزمان هو مثال آخر على القوى النائمة وتأثيرها، متى ما أوقظت. عندما قررت السعودية بشكل شجاع توديع الخطاب الديني المتطرف، والعمل بقوة على نشر فكر الوسطية والتسامح وقبول الآخر، لم يكن انعكاسه فقط على الداخل المحلي، ولكنه أحدث حراكاً مهماً في كثير من دول العالم الإسلامي، نظراً لمكانة السعودية وثقلها الكبير ورمزية موقعها.
وهذا الحراك الذي بدأته السعودية سيكون جدار صدّ مهماً لمواجهة الأفكار العنيفة والمتطرفة بشكل عملي بعد سنوات طويلة من الاستسلام لها وأمامها. وهذا بحد ذاته سيكون أهم مكالمة إنقاذ عرفتها القوى النائمة.
القوى النائمة هي قوى هائلة كامنة لم يتم توظيفها رغم وجودها. ومتى أدركت الدولة فائدة إيقاظها، ونجحت في ذلك، فإن تبعات القرار عادة ما تكون إيجابية وعظيمة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القوى النائمة القوى النائمة



GMT 02:27 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

تحشيش سياسي ..!

GMT 02:21 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

السلطة والدولة في إيران

GMT 02:19 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

القمة العربية... اليوم التالي

GMT 02:16 2024 الثلاثاء ,21 أيار / مايو

نسيج العنف... ما بعد حرب غزة؟

GMT 12:49 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك
  مصر اليوم - افكار تساعدك لتحفيز تجديد مظهرك

GMT 12:36 2024 الإثنين ,20 أيار / مايو

أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها
  مصر اليوم - أنواع وقطع من الأثاث ينصح الخبراء بتجنبها

GMT 02:55 2019 الإثنين ,03 حزيران / يونيو

نيللي كريم تتحدث عن ظهورها في فيلم "كازابلانكا"

GMT 20:58 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

دي ليخت بين مطرقة عمالقة أوروبا وسندان برشلونة

GMT 18:43 2019 الثلاثاء ,12 شباط / فبراير

خبير أرصاد يُحذّر من استخدام الكمامات في العاصفة

GMT 12:42 2019 الأربعاء ,16 كانون الثاني / يناير

خطرٌ يُهدد حياتك بسبب النوم أكثر أو أقل من 8 ساعات يوميًا

GMT 02:16 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

بدران يؤكد أن الموز يُخفّف حموضة المعدة

GMT 12:55 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

مباراة توتنهام ضد تشيلسي تخطف الأضواء في الدوري الإنكليزي

GMT 03:34 2018 الأربعاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

مميزات استخدام ديكور الجدران الخرسانية في غرف النوم

GMT 21:44 2018 الأحد ,09 أيلول / سبتمبر

تفاصيل جديدة مثيرة في واقعة "مذبحة الشروق"

GMT 23:32 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

صخرة برشلونة مهددة بالغياب عن مواجهة فياريال

GMT 15:00 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

محمد الحنفى يؤكد انتظاره إدارة القمة منذ 3 سنوات

GMT 05:38 2018 الجمعة ,20 إبريل / نيسان

انطلاق أول رحلة لطائرة في الصيف "Stratolaunch"

GMT 10:06 2018 الجمعة ,13 إبريل / نيسان

هادجنز تتألق في تقديم مجموعة "سينفول كلورز"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon