توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

بقلم : بسمة عبد العزيز

 خطٌّ أحمر. تعبير قصير، شائع الاستخدام في اشتقاقات مُختلفة ومَواقف مُتباينة. في سالف الزمان، كانت الأرضُ على سبيل المثال خطًا أحمر؛ لا يُفرِّط فيها إنسانٌ، صيانتُها واجبةٌ مَهما كان الثمنُ الذي يدفعه صاحبها؛ مِن مالِه وصحتِه أو أمانه الشخصيّ، والموتُ دونها شرفٌ. يُجِلُّ المُجتمعُ مَن يدافع عنها ويحميها، ويحتقر مَن يُساوم عليها أو يتنازل عنها. كانت القدسُ تاريخًا وترابًا بمنزلة خطٍّ أحمر؛ لكن اختلاف الأزمنةِ غَيَّر على ما يبدو الألوان.

الأحمر لونُ الخطر؛ لونُ الدماءِ والشراسة، وقد جرى العرف في ساحات السياسة على استخدام ”الخَطّ الأحمر“؛ تهديدًا ووعيدًا، وحين لم يعُد الخطُّ الواحد كافيًا، تحول سريعًا إلى خطوطٍ كثيرة، ترسم للناس ما يُقال وما لا يُقال؛ تُنبِّه إلى ما قد تغُضُّ السُلطةُ طرفَها عنه وتتجاهلَه، وما لا يُمكِن أن يمُر عليها مُرور الكِرام.

في عهودٍ سابقة كانت الخطوطُ الحمراءُ مَعروفة مُحدَّدة، تَجَاوُزُها يَستجلِب صورةً مِن صور العقاب، والالتزام بها يُؤَمِّن صاحبَه ويضمن سلامَته. خطوطٌ مُتَّفقٌ عليها، يُدركها الجميع، كما يدركون على وجه التقريب رَدَّ الفعل إزاء طَرقِها؛ طرقًا خفيفًا لينًا، أو خَمشها وخَدشها، أو حتى كسرها.

تُقرِّر قوانينُ الطبيعةِ أنَّ لِكُل فِعل ردَّ فعل، مُضاد له في الاتجاه ومُساو في القوة؛ لكن سقوطَ المبادئ والخطوط والعلامات، وتفتُّتِها، وانهيار ما تَعارف عليه الناسُ مِن البديهيات والمُسلَّمات؛ جعل لكُلِّ فعلٍ ردًا مُنعزلًا عنه، غالبًا ما يفوقه ويتجاوزه بمئات المرات.

يقول كثيرون مِن أصحابِ الأقلام وأربابِ حِرفة الكتابة، إن الخطوطَ الحمراءَ تلاشت وانمحت. لم تعد هناك مَحظوراتٌ صريحةٌ واضحة، وثابتة كما في الماضي القريب؛ فيومًا وراء يومٍ وساعة بعد ساعةٍ، يُضافُ إلى القائمة مَحظورٌ جديد. يقولون إنَّ الأمرَ أصبح عائمًا غائمًا، لا إطار له ولا ضوابط حاكمة. الكلمةُ الواحدة تُفَسَّر بطُرق عِدة، وتُحمَل على أكثر مِن وجه؛ لا تبعًا للسياق الذي ظهرت فيه فقط؛ بل ارتباطًا بعوامل أخرى، منها إحكام السيطرة، وليّ الأذرع، وقصف الأدمغة.

ثمّة رسائل تُبَث هنا بطريق غير مباشرة؛ فغياب القاعدةِ المُتبَعة وإن كانت قامعةً قاهرة؛ ليس إلا رسالة ترويع وتخويف، حال مُزمنة مِن التوتر والترقُّب، تلِفُّ الأجواءَ، وتستنفذُ القدرةَ على التكيُّف والتعايُش. المُحصِّلة النهائية؛ كُتاب ومفكرون يهجرون أوراقَهم، آخرون يهاجرون إلى فضاءات أرحب ويختارون عبورَ الحدود. شللٌّ يصيب كثيرين، فيعزفون عن إنتاج أيّ نصٍّ؛ لصحيفة أو مجلة، أو كتاب. الحكمة السائدة الآن: ”ابعد عن الشر وغني له“، الغناءُ نفسه انضم إلى مصادر الخطر؛ لم يعد المطربون والشعراء والملحنون في مَأمَن، ومثلهم المسرحيون والسينمائيون ومَن التحق بسفائنهم وركائبهم؛ كلٌّ في مَهَبِّ الريح سواء.

حساسية أي نظام سياسيّ للكلمة أمر يصعب الجدال فيه، وضعفه الظاهر أو الخفيّ بمنزلة عامل؛ يزيد مِن تلك الحساسية ويضاعفها، كيف لا؛ ومُؤسسات الحُكم القوية ذاتها، المُستقرة في بلدانها، تهزّها الكلمةُ وترجُّها رجًا. مُؤسسات الحُكم في الولايات المتحدة على عِظَم قدرها؛ تُفجِعها تدوينةُ جديدة مِن الرئيس ترامب، وتزلزلُ أركانَها تغريدةٌ تصدر عنه في غير مَحلِّها. فارقٌ بينها وبين نُظُم حُكم أخرى، تتوزع في أنحاء المعمورة، أنها لا تعتدي دون جريرة على مواطنيها، تشريعاتها مَصونة ومُعادلاتها مَنطقية مُحكَمة، والخطأ لديها يقابله تعريفٌ راسخٌ في القانون، وعقوبةٌ لا تنكيل فيها ولا انتقام؛ خطوطها الحمراء ليست شفهية ولا عشوائية أو انفعالية، لا تُناقِض مواد الدستورَ أو تنتهكُ الحقوقَ الأساسية للناس.

لا أدري متى ظهر تعبير ”خَطٌّ أحمر“ في الخطاب السياسيّ، ولا تصورت يومًا أنني أكتب مَرثية في وفاةِ الخطوطِ الحمراء؛ إنما هو تداعي الأحوال وانحدارها بما لم يكُن أبدًا في الحسبان.

 نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خَطٌّ أحمر خَطٌّ أحمر



GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

GMT 22:12 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

استراتيجة ترمب لمكافحة الإرهاب وتغيرات تكتيكية

GMT 22:05 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الحليب والسلوى

GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt