توقيت القاهرة المحلي 13:56:11 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لماذا لا نهتم لِتَهَدُّم المبانى التاريخية؟

  مصر اليوم -

لماذا لا نهتم لِتَهَدُّم المبانى التاريخية

بقلم - مىّ الإبراشى

يحدث الآن...
هدم العقار رقم 54 بشارع 26 يوليو بحى بولاق والذى يحارب سكانه من أجل الحفاظ عليه. إلا أنه ــ من وجهة نظر الدولة ــ يقف عائقا أمام مشروع إعادة بناء مثلث ماسبيرو. ليس لأن بقاءه سيمنع إعادة البناء لكن لأن موقعه ــ مثل موقع غيره من العقارات ــ على شارع رئيسى وفى حالات أخرى على النيل مباشرة يمثل فرصة لا تعوض للاستثمار العقارى.
يحدث الآن...
صفحة فيسبوك تتحدث باسم سكان شارع 26 يوليو ــ عشرات الموضوعات تُكتب عن هذا الموضوع ــ آلاف المشاركات على صفحات التواصل الاجتماعى ــ لقاءات تليفزيونية ــ فيديوهات ــ ولا حياة لمن تنادى.

***
الموضوع شديد التعقيد لتشابك أطرافه بين التراث والثقافة من جهة والسياسة والاقتصاد من جهة أخرى. وطبعا إذا وضعناهم فى مواجهة فالنصر للسياسة والاقتصاد. ونحن فعلا نضعهم فى مواجهة بسبب قصور فى فهمنا لدور التراث والثقافة فى حياتنا، وهو ما يؤدى بدوره إلى قصور فى القوانين واللوائح التى تنظم هذا الدور. وحقيقة الأمر أن الموضوع يمس حياتنا اليومية بشكل كبير، وبالتالى التراث هو السياسة والثقافة هى الاقتصاد.
تخيل معى... 
أنت مالك لعمارة من ثلاثة أدوار بناها جدك فى عشرينيات القرن الماضى. العمارة على شارع رئيسى بالمنيرة، بها 6 شقق وتدر 120 جنيها دخلا شهريا. السكان يرفضون الرحيل وحتى إن رحلوا تحتاج لملايين الجنيهات لدفع الخلو وعمل إصلاحات العمارة لبيع الشقق أو تأجيرها. من الصعب الحصول على قرض بنكى لأن البنوك لا تعترف بهذه العقارات القديمة كاستثمار جيد وحتى لو منحتك القرض فالفوائد نار. يتواصل معك مقاول يهدم العمارات ويبنى مكانها أبراجا حديثة ليعرض عليك شراء الجمل بما حمل والتعامل مع السكان وهدم العمارة وفلوسه جاهزة. الحل مثالى ــ سيمكنك وعائلتك من الخروح من الضائقة المالية. هناك عائق واحد. العمارة مسجلة (تراث معمارى) من قبل جهاز التنسيق الحضارى وغير مسموح بهدمها والحكومة ليس لديها الموارد لتساعدك على ترميمها.
تخيلى معى...
أنت ناشطة للدفاع عن التراث تقفين بالشارع حاملة لافتة تطالب بالحفاظ على العمارات التراثية. أخونا صاحب عمارة المنيرة يقف ليتناقش معك بحدة مدافعا عن حقه فى الاستفادة من ورث جده الذى منعته الحكومة عنه ــ فى البدء بسبب قانون الإيجار القديم والآن لأنها سجلت البيت كطراز معمارى يمنع هدمه أو تعديله. تحاولين أن تشرحى له أن قيمة المبنى تتعدى قيمته كأرض أو عقار وأن المستقبل يحمل معه زمنا نعتز به بهذا التراث ونقدره ويستفيد منه الأحفاد كمورد اقتصادى أقيم بكثير من البرج المزمع بناؤه. وتتحدثين عما يمثله المبنى من تراث ملكنا جميعا. ويصرخ صاحب عمارة المنيرة فى وجهك قائلا: «لو عاجبك قوى كدة تعالى اشتريه أو الحكومة تشتريه وتحافظ عليه» ويسقط فى يدك. فالحكومة الآن تهد العقار رقم 54 وتهدد بهدم عقارات تاريخية أخرى مسجلة. وحتى إن لم يكن الأمر كذلك لا توجد حكومة فى العالم لديها الموارد الكافية لشراء جميع مبانيها التاريخية.
تخيلا معى...
أنت موظفة شابة بالتنسيق الحضارى وأنت موظف شاب بالمحافظة. تعملان فى ظل مجموعة من القوانين المهلهلة واللوائح الفضفاضة والمنهجيات العقيمة. الضغط شديد لا ينتهى. كأنما أنتما الحبل فى لعبة شد الحبل. الكل يحاول شدكما ناحيته وأنتما لا حول لكما ولا قوة. الحبل مهترئ ولا توجد لا نية ولا منهجية ولا ميزانية لإصلاحه. دعانى أُعِدْ صياغة الجملة الأخيرة. لا توجد نية أو منهجية وبالتالى فالميزانية المتوفرة تذهب هباء.
تخيلوا معى...
أنتم مجموعة من المسئولين الكبار فى الحكومة والبنوك. تجتمعون بخبراء فى مجال التراث والتطوير العقارى فى دائرة نقاش من تنظيم جهة مصرية أو دولية محايدة تهتم بالتراث والعمران. ويطرح الخبراء أمثلة عديدة لمدن مرت بنفس الصراع بين عالم التراث وعالم الاستثمار العقارى. فقدت بعضا من تراثها المعمارى ثم أدركت قبل فوات الأوان أن ما تفقده لن يعوض. فحاولت الوصول إلى حلول مجدية اقتصاديا للحفاظ على هذا التراث. فعلى سبيل المثال لا الحصر تم تأسيس شركة استثمار عقارى بين الحكومة الهولندية ومجموعة من البنوك لشراء المبانى التاريخية بأمستردام وترميمها على شرط المحافظة على معظمها كمساكن ومحال وورش بإيجارات معقولة يؤجرها أهالى أمستردام وعلى شرط تحديد نسبة الربح حيث لا تتعدى 15% يتم استثمار الفائض منها فى شراء مبانى جديدة. والشركة تعمل بنجاح منذ عام 1956 وتمتلك الآن أكثر من 500 عقار. فتستمعون كمسئولين لأفكار مثل هذه وتقتنعون بها لكن لا يعجبكم أن جميعها حلول طويلة المدى تحتاج إلى إصلاح إدارى جاد. فتخافون على مناصبكم ولا تستسيغون فكرة أن يجنى من يخلفكم ثمار جهودكم. بالمختصر تخافون أن تحلموا. ويبقى الحال على ما هو عليه. 
تخيلى معى...
أنت مواطنة عادية تقرئين الصحف وتشاهدين التليفزيون وتتابعين صفحات التواصل الاجتماعى. تعيشين فى قلق وترقب من توابع ما يسمى بتنمية موارد الدولة. تتابعين فى استغراب يمتزج باللامبالاة ما تنشره صديقة الطفولة الواقفة بالشارع بلافتة للدفاع عن تراثنا عن خناقتها من أجل الحفاظ على مبان تراثية لم تريها فى منطقة لا تعرفينها على الرغم من أنك تمرين عليها أسبوعيا فى معاناتك للوصول من شقتك بالتجمع لمنزل والدتك بالمهندسين. تعشمك الدولة بالتعمير والتطوير وتطرح لك كدليل على المستقبل المشرق الذى ينتظرنا جميعا مشاريع الإعمار فى الصحراء والتخلص من العشوائيات. فهى آخر أمل تتشبثين به لحياة أفضل لأبنائك. فتعلقين على طرح صديقة الطفولة وتكتبين: (مش أحسن ما ينموا موارد الدولة من الضرايب وغلاء الأسعار ورفع الدعم. خلينا بقا نجيب مستثمرين ونقب على وش الدنيا ونبقى ولا دبى. وبعدين كتر خيرها الدولة إنها بتنظف البلد من العشوائيات وبتخف الزحمة.) وأنت نفس الشخص الذى زار إسطنبول قبل التعويم وأعجبتك المبانى التاريخية المنمقة بشارع استقلال وضربت كفا على كف قائلة: (والله عندنا أجمل منها بس إحنا اللى مش عارفين قيمة بلدنا).

***
هؤلاء الأطراف جميعا يمثلون التراث والثقافة والاقتصاد والسياسة. بعضهم سيئ.. منهم قلة قليلة من الأشرار، وبعضهم طيب.. منهم قلة قليلة من المناضلين الحقيقيين، ومعظمهم بشر يعافرون مع الحياة فيخطئون ويصيبون وغالبا لا فرصة لهم فى صراعهم مع الحياة للوقوف أو التفكير أو التأمل. والموضوع فى الحقيقة معقد ومتشابك ولا حل له إلا من خلال الوقوف والتفكير والتأمل. وهنا تكمن المفارقة – فالموضوع عاجل ومطلوب تصرف سريع لكن ــ فى نفس الوقت ــ الحلول السريعة لا تغنى عن الدراسة والنقاش والتفكير للوصول إلى تغيير جذرى طويل المدى يتعامل مع اقتصاديات وسياسات التراث فى إطار رؤية لمدينة القاهرة باعتبارها منظومة اجتماعية وثقافية لها رمزية سياسية بوصفها عاصمة عريقة لواحدة من أهم دول الشرق الأوسط وإفريقيا. ومن وجهة نظرى ونظر العديد من الخبراء لا مفر من تجميد الموقف وتجميد البناء والهدم فى القاهرة لعدد من الأشهر وإيقاف مذبحة التراث لحين الوصول إلى خطوط عامة لفك هذا التشابك. فما يفقد لا يمكن تعويضه. ومن مساخر هذا الزمن أن كثير مما يتم بناءه هو تقليد ماسخ وفقير لما تم هدمه. فلا نحن ابتكرنا عمارة حديثة ومعاصرة تعبر عن حاضرنا ولا حافظنا على ما بناه لنا الأجداد. فأى مستقبل تركناه لأولادنا؟

نقلا عن الشروق القاهريه

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا لا نهتم لِتَهَدُّم المبانى التاريخية لماذا لا نهتم لِتَهَدُّم المبانى التاريخية



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:49 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
  مصر اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 16:13 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

"فولكس واغن" أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية
  مصر اليوم - فولكس واغن أبوظبي تُمدّد عروضها الرمضانية

GMT 00:48 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

محمد رمضان يتصدر مؤشرات محرك البحث "غوغل"

GMT 23:26 2020 الجمعة ,17 إبريل / نيسان

السنغال تُسجل 21 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 11:27 2020 الإثنين ,02 آذار/ مارس

مجلة دبلوماسية تهدى درع تكريم لسارة السهيل

GMT 12:58 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

خطوات تضمن لكٍ الحصول على بشرة صافية خالية من الشعر

GMT 16:39 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

الحكومة المصرية تحصل على منح بـ 635 مليون جنيه

GMT 05:48 2019 السبت ,27 إبريل / نيسان

جوني ديب يقرر الزواج من راقصة روسية

GMT 13:34 2019 الإثنين ,14 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي لدول المتوسط يصنّف الأفضل لعام 2019
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon