توقيت القاهرة المحلي 13:03:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أيّها الوحيدون.. اصنعوا زحامَكم!

  مصر اليوم -

أيّها الوحيدون اصنعوا زحامَكم

بقلم - فاطمة ناعوت

فى مقالى الاثنين الماضى بنافذتى هذه بـ«المصرى اليوم»، كتبتُ عن دفء العائلة الذى نتنعّمُ به فى إجازات الأعياد. ويبدو أن مقالى ذاك قد جرح بعض الناس ممن تَمزّقَ عنهم ثوبُ الأسرة، فوخزتهم لسعاتُ برد الوحدة والهجر، بسبب رحيل الأحباء أو سفر الأبناء أو عقوقهم. وصلتنى عشراتُ الرسائل تحكى هموم كاتبيها ممن غدت الأسرةُ بالنسبة لهم مجرد جدرانَ باردةٍ فى بيتٍ صامت. لهذا أكتبُ لهم هذا المقال كنوع من الاعتذار، لا لكى يتعزّوا به، بل لنتأمل قدرتنا البشرية السحرية التى منحها لنا اللهُ فى خلق الزحام من صحراء الوحدة والهجر.
أقولُ لمَن جرحهم مقالى «العيد، العائلة، الجنّةُ التى على الأرض» إن اجتماع الناس حول مائدة الأسرة شحيحٌ بسبب دوامة الحياة المتسارعة. ولكن بوسعنا «خلق الزحام» على «أطلال الوحدة». ودعونى أحكى لكم ملخص حوار دار بينى وبين صحفية كندية فى حفل توقيع بعض كتبى قبل أعوام فى تورونتو الكندية. سألتنى الصحفيةُ: «سيدتى، هل تُحبين الوحدةَ والسكون؟ أم تفضّلين الوجودَ بين الناس والصخب؟»، فأجبتها: «أحبُّ الاستمتاعَ بالوحدة، وسط الحشود. والاستمتاعَ بالزحام فى وحدتى». وطلبتِ الصحفيةُ توضيحًا، فقلت لها:

«فى منزلى الصغير بالقاهرة، يعيش معى مليون إنسان يملأون يومى صخبًا وقلقًا وحبًّا ومعاركَ وضحكًا وعشقًا ومشاكساتٍ وحروبًا؟! أحيانًا لا أكادُ أجد مقعدًا شاغرًا فى منزلى للجلوس، وفى أحايين أخرى لا أجد مكانًا للنوم على سريرى، من فرط الزحام! فأضطرُ أن أنام فى غرفة المكتب، جالسة على مقعدى ورأسى ساقط فوق أكوام الورق على سطح المكتب. يعيش فى منزلى أبوحيّان التوحيدى وابن عربى وغاندى وأفلاطون وأرسطو وابن رشد وبورخيس وطه حسين وسارتر وبرنارد شو وأكتافيو باث وشمس الدين التبريزى وجلال الدين الرومى وسيزان وشوبان وشتراوس وموتسارت وفيفالدى وينّى وكالفينى وسيلفادور دالى وبيكاسو وهارولد بنتر ومكسيم جوركى وفرجينيا وولف وموليير وإيميلى ديكنسون وجبران والأخطل وجورج أوريل وفوكو وديكارت ونزار قبانى وأحمد عبدالمعطى حجازى وعبدالصبور وزكى نجيب محمود وعبدالعزيز المقالح والسياب ونازك الملائكة والنفّرى ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم. حتى «ماركى دو ساد» خصصتُ له ركنًا معتمًا فى بيتى يليق بجحوده. الشهر الماضى قضيتُ يومى أفضُّ معركة بين مارتن لوثر كينج وهتلر. ناصرتُ الأول وشبكت زهرةً فى عروة قميصه، وركلتُ الثانى، فانزوى وبكى. وقبل أسبوعين أنصتُّ إلى جوديث شقيقة وليم شكسبير، وهى تقول له باكيةً: «أنا أكثرُ منك موهبةً، لولا أنك ولدٌ وأنا بنتٌ فى مجتمع يظلم النساء. ظلمنى نوعى فلم أشتهر، وأنصفك نوعك فاشتهرتَ»، فابتسم ولم يُجب، ثم التفت معى إلى معركة ساخنة بين ابن تيمية وابن عربى، انتهت بأن مزّق كلٌّ منهما مخطوطاتِ الآخر.

ولكم أن تتخيلوا حالَ بيتى بعد تلك المعارك بين العقول التى تسكن معى، والتى تُسفر دائمًا عن مزهريات مهشمة، ووسائد ملقية هنا وهناك، ومقاعد مقلوبة وآراؤك تقفُ كالتوابيت فى ساحة الوغى. بيتى يُعوزه الهدوء. وفجأةً يصدح فيولين تشايكوفسكى مع صوت فيروز تغنى للعصافير واليمامات التى تزور شرفتى كل صباح تقول لى: «صباحك سكر يا فاطمة»، ثم تطيرُ بعدما تلتقطُ القمح من كفّى. تملأ عينى ألوانُ بيكار ومختار وحليم ووانلى. العام الماضى قضيتُ عدة نهارات أصلحُ إحدى طواحين «فان جوخ» الهوائية بعدما تدلَت ريشةٌ من طاحونة وكادت تسقط من اللوحة على الأرض. وبعدما أصلحتُها فرح جوخ وكافأنى بثلاثة عيدان قمح من إحدى لوحاته لأخبز بها رغيفًا لعشائى مع زُراع البطاطس الفقراء. وبعد العشاء، استأذنتُ بيتهوفن فى عزف «فور إليس» على بيانو فى لوحة «بولديني»: لابيانسيتا. قبل النوم، انتبهت على صخب وهرج ومرج فى قاعة المعيشة! فإذا بها معركةٌ عنيفة بين رينوار وماتيس، حيث غضب الأول لأن الثانى وضع باللوحة لونًا أسودَ، والأسود، فى رأيه، ليس لونًا بل بقعةٌ من الخواء أو مِزقٌ فى اللوحة، وأصرَّ الثانى على أنه سيدُ الألوان! ثم تجاوز ماتيس فى غِيّه ورسم عنقًا طويلا لرجل ولوّنه بالأخضر، حتى يغيظ رينوار. صالحتهما معًا لأننى أحبهما معًا، ولم أناصر أحدًا على أحد فغضبا منى كلاهما وخاصمانى! غدًا أصالحهما بكعكة شيكولاتة وأهدى كلا منهما علبة ألوان جديدة. بيتى صغير جدًّا، ومزدحم جدًّا. زحامٌ فى بيتى، لكن لا أحد. أولئك الذين يشاركوننى البيت لن يبكوا علىّ حين أموت، فهم لا يعرفون الدمع، لأنهم جميعا صنّاع فرح.

أيها الوحيدون، اصنعوا زحامكم الخاص من الكتب والأسطوانات، واستضيفوا طيورَ السماء فى شرفاتكم وامنحوها بعض القمح.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أيّها الوحيدون اصنعوا زحامَكم أيّها الوحيدون اصنعوا زحامَكم



GMT 20:57 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان

GMT 20:53 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عفونة العقل حسب إيلون ماسك

GMT 20:49 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا تناشد ‏الهند وباكستان تجنب «الانفجار المفاجئ»

GMT 20:45 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عودوا إلى دياركم

GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 05:10 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يدرس تعيين جنرال أميركي لقيادة القوة الدولية في غزة
  مصر اليوم - ترامب يدرس تعيين جنرال أميركي لقيادة القوة الدولية في غزة

GMT 10:50 2025 الجمعة ,12 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين عبد العزيز تتصدر التريند بعد حلقة منى الشاذلي
  مصر اليوم - ياسمين عبد العزيز تتصدر التريند بعد حلقة منى الشاذلي

GMT 09:56 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج الحوت الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 09:41 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 08:55 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

حظك اليوم برج الأسد الجمعة 05 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 17:50 2017 الأحد ,29 تشرين الأول / أكتوبر

بتروجيت يحفز لاعبيه بالمكافآت قبل مواجهة الزمالك

GMT 10:06 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

النفط يصعد بأكثر من 2% مع اقبال المتعاملين على المغامرة

GMT 02:00 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

تفاصيل انفجار كاد يودي بحياة أسرة كاملة في البدرشين

GMT 11:34 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

حمدوك يُؤكِّد مساعدات الأشقاء تُساعد على حل الأزمة المالية

GMT 20:02 2016 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

ما الذي يجب أن تحويه صيدلية المنزل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt