توقيت القاهرة المحلي 08:23:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

القصص.. وأم صبري

  مصر اليوم -

القصص وأم صبري

بقلم: تمارا الرفاعي

الناس قصص، الناس أسرار، الناس أشكال ألوان، الناس حكايات عن المدن وعن السياسة والاقتصاد والتاريخ والمجتمعات. الناس أساس فهم الكثير من المواد الجافة. حكايات الصباح وشرب القهوة ومشاهدات من الشرفة وتغيير اللغة ودخول مصطلحات جديدة أراها جميعها المركز الذى تنطلق منه كل النظريات. ماذا تأكلون فى الصباح؟ هل تشربون الشاى أم القهوة؟ ما شكل المواصلات العامة فى المكان الذى تعيشون فيه؟ هل يلتقى الناس فى البيت أم خارجه؟ هل ما زلنا نبارك لمن يتزوجون فنزورهم فى بيتهم؟ هل تستقبل النساء صديقاتهن فى يوم محدد كأول خميس من كل شهر مثلا كما كانت تفعل جدتى فى دمشق؟ هل هو الشهر الهجرى أم الميلادى؟
• • •
فى أغنيته الشهيرة «أحلى من برلين» يقول الموسيقى فرج سليمان إنه يشتاق للحارة ولأم صبرى، التى يمكن أن تكون الجارة أو الجدة أو المدرسة أو أى شخصية محلية بإمكان أغلبنا أن نتخيلها، ففى حياتنا جميعا «أم صبرى» كثيرات يمثلن شيئا شديد المحلية والخصوصية يظهر لنا فى أوقات الوحدة والاشتياق للمألوف. أظن أن أم صبرى هى قصص نتشربها دون تفكير وتدخل علينا كطبقات تتراكم وتتزاحم فى ذاكرتنا وتشكل وعينا بأماكن ومراحل مررنا بها. أم صبرى وقصصها جزء من كل شخص ومرجع أساسى يظهر دون استئذان فى لحظات غالبا ما تكون أشد البعد عن ظروف تعرفنا فيها على أم صبرى.
• • •
تصلنى كلمات فى شارع فى عاصمة غربية ترمينى فى بيت عمة فى حلب يوم العيد وهى تخرج مربى الباذنجان بنكهة القرفة والقرنفل من إناء زجاجى مستخدمة شوكة رفيعة، يتبع ذلك ثناء أمى وكلمات الشكر من أمى ووصف العمة بأنها أنيقة و«متقنة». أو أن أرى شخصا لا تربطنى به أى علاقة فأتذكر رجالا كانوا يقفون عند ناصية مزدحمة يحدقون بالمارة وخصوصا الصبايا منهم وأضحك اليوم حين أتذكر أبو صبرى، زوج أم صبرى، وهو يبحلق فى الشابات وزوجته ترميه بعبارات صارخة تطلب منه أن يعود إلى البيت. كنا نعرف جميعا أنه مخبر لصالح الأمن مثلا فنستمتع برمى كلمة أمامه نعلم أنه سيحاول أن يفندها ويتابع تطوراتها دون جدوى.
• • •
أعود اليوم إلى تفاصيل أحاول أن أفهم من خلالها البلاد أو الحالات المختلفة لأماكن عشت فيها. صرت أرى التفاصيل والقصص أنها أهم من المواد الجافة التى تفسر المراحل والأماكن. أن أراقب تغييرات طرأت على عائلة أو عمارة أو شارع أو حى، هو بالنسبة لى، موضوع مبهر: من التفصيل الحميم الصغير الشخصى أوسع العدسة لأرى الصورة الأكبر، هذه طريقتى المفضلة بالسرد وبفهم الأماكن والمراحل.
• • •
لفت نظرى صديق أن للمصريين قدرة تفوق قدرة من حولهم فى المنطقة العربية بالسرد المجتمعى، وأن الكتابة المصرية فى السنوات الأخيرة أصبح جلها على طريقة سرد الحكايات بشكل مذهل يتيح لغير المصريين أو من لا يعيشون فى مصر أن يتابعوا تطور المجتمع المصرى عن قرب. سبق للعملاق نجيب محفوظ أن أثرى فهم الكثيرين بالحالة المصرية من خلال عبقرية كتابته عن النفس البشرية ومراحل تطورها وعلاقتها بما حولها فقد أرسى نوعا من الأدب يوثق لأدق تفاصيل المجتمع.
• • •
اليوم أقر أن قراءتى المفضلة هى تلك التى تتخذ من الفرد ومجتمعه الضيق أساسا لقصة أفهم من خلالها البلد وسياسته واقتصاده وعلاقات القوة التى تربط الأفراد فيه فيما بينهم. أبحث عن قصص أرى فيها تقاطعات مع قصص أعرفها، أبحث عن شخصيات تساعدنى على فهم علاقتى بالمكان أو الأماكن: ما الذى ما زلت أهرب منه ويعود ليشدنى وكأننى لم أبتعد؟ ما هو سر أم صبرى التى لطالما نفرت من فضولها وتدخلها الدائم فيما لا يعنيها وها أنا أبحث عنها فى شارع مدينة غربية وأجد بالفعل من تشبهها فأوقفها فى الشارع لأسألها عن مكان يبيع الكنافة؟
• • •
هذه العلاقة الإشكالية الملتبسة بالمكان أعيشها عن طريق شخصيات مرت على وشكلت عندى ذاكرة عن مرحلة ظننت أننى تعديتها بل ولفظتها لأعود اليوم إليها بنوع من الشوق الساذج. لم أحب أم صبرى قط الحقيقة وبنيت معظم رحلتى فى محاولة ألا أدعها بفضولها ولسانها السليط تتحكم بحياتى. وها أنا أدندن مع فرج سليمان أننى أيضا أشتاق لأم صبرى وقصصها عن الحى. أظن أن الفرق بين من كنت حين أزعجتنى أم صبرى فى شبابى وبين من أصبحت اليوم هو أننى صرت أضعها فى سياقها وأضحك على فضولها ومحاولتى أن أفلت من قبضة لسانها على حياتى، لكنى أشتاق لما تمثله من ألفة ودفء وعزوة حين أحتاجها.
• • •
علاقتى بالأماكن معقدة وأكتشف أن الحال كذلك عند كثيرين من أصدقائى ممن تحركوا فى الفضاء والمراحل بعيدا عن مكانهم الأصلى، ليس بالمعنى الجغرافى فقط إنما تحركوا أيضا فى طريقة حياتهم حتى لو ما زالوا قريبين من مكان ولادتهم. تبقى أم صبرى شخصية أساسية فى علاقتى الإشكالية بالمكان وبالتغيير (أو عدمه). أريد أن أعود فألقاها لكنى لا أريد أن أعيش قربها. أريد قصصها حتى أشرح لأولادى عن القاهرة ودمشق وبيروت فهم لن يعرفوا هذه المدن دون حكايات الناس. علاقتى بالأماكن هى القصص... وأم صبرى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القصص وأم صبري القصص وأم صبري



GMT 01:22 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 01:11 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 01:07 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 23:18 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تنظيم العمل الصحفي للجنائز.. كيف؟

GMT 23:16 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 06:56 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

شهر مناسب لتحديد الأهداف والأولويات

GMT 14:29 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

مؤمن زكريا يتخلّف عن السفر مع بعثة الأهلي

GMT 05:35 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

شوبير يفجر مفاجأة حول انتقال رمضان صبحي إلى ليفربول

GMT 13:45 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

ماكينات الـ ATM التى تعمل بنظام ويندوز XP يمكن اختراقها بسهولة

GMT 02:15 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على سعر الدواجن في الأسواق المصرية الجمعة

GMT 17:17 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الوطني يصل السعودية لأداء مناسك العمرة

GMT 16:08 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتشاف تابوت يحوي مومياء تنتمي للعصر اليوناني الروماني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon