توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من قاع الكرار

  مصر اليوم -

من قاع الكرار

بقلم - أحمد الجمال

أستسلم بين حين وآخر للذكريات، فأكتب من عمق أعماق الذاكرة، وكنت أعجب، ومازلت، من الترحيب الذى تلقاه مقالات ذكريات الغيط والقرية والموالد وغيرها، حيث أتلقى عشرات التعليقات، بعضها يتمم ما كتبت.

وفى الشهور الستة الأخيرة أصحو وأنام وذهنى منشغل تمامًا بحتمية استكمال ما بدأته من كتابة المذكرات، ويبدو أن هذا الانشغال يسبب حثًّا قويًا لوظائف النشاط الذهنى الاسترجاعى- إذا جاز الاصطلاح- فبمجرد أن أسرح فى محتويات مرحلة ما تتداعى وقائع كثيرة كانت قابعة فى أعماق الذاكرة، خاصة ما يتصل بالمرحلة ما قبل الكتابة، على غرار ما قبل التاريخ.. لأننى لا أملك تراثًا ذاتيًا مكتوبًا منذ وعيت بما حولى إلى أن احتفظت بأوراق مكتوبة وصور ملتقطة ولوحات مرسومة.

استدعيت، أو استدعتنى، «غرفة الكرار» المظلمة عديمة النوافذ، اللهم إلا فتحة ضيقة ضئيلة «رازونة» فى السقف، تتسلل منها خيوط ضوء ضعيفة متفرقة.. وقد كنا، ومازال أهلى هناك يسمون الغرفة «قاعة»، وينطقونها بالإمالة فتصير «قيعة»، ويحولون القاف جيما قاهرية أو جافا فارسية- حرف كاف له شرطتان- فتصبح «جيعة الكرار».. والكرار فى اللغة العربية هو بيت المؤونة.

وكان هناك صندوق ضخم اسمه أيضًا «الكرار»، مرتفع فوق أرجل أربعة مصنوع من الخشب السميك، وفى سطحه الأعلى فتحة مربعة حوالى نصف متر فى نصف متر، لها باب سميك يرفع لأعلى ليستند- وهو مفتوح- على الحاجز الخشبى «السجاف» شبيه الأرابيسك، الذى يرتفع ويحيط بالأضلع الثلاثة، وكانوا يضعون فيه العيش «الخبز» الذى ينشرونه موزعًا على حصيرة كبيرة، بعد أن يخرج من الفرن حتى يبرد ويجف قليلًا، كى لا يناله العفن الأخضر إذا كدسوه طريًا، وإذا لم يكونوا قد أضافوا بعض الحلبة على دقيقه، لأنهم بالفطرة والخبرة المتراكمة عرفوا أن فى الحلبة ما يحمى الخبز من نمو العفن.

وذات مرة، وكنت «قزعة» لا يتجاوز عمره خمس سنوات، قررت دخول «جيعة الكرار» لأحصل على رغيف، ومعه باذنجانة محدقة، لأننا كنا ومازلنا نسمى المخلل «محدق» ميم مكسورة وحاء مفتوحة ودال مفتوحة مشددة، ومازال الأطباء يحذرون من «الحادق والحراق»، لكى آخذ العيش والمحدق وأجلس على المصطبة المقامة فى الحارة أمام الدار، وما إن شببت وعافرت حتى وصلت للحافة العلوية للصندوق إياه «الكرار».

وعافرت ثانية لأفتح الغطاء العلوى فانفتح، ولأجل أن أستخدم يدى الاثنتين سندت الغطاء برأسى، وفى ثانية اختل الوضع فنزلت برأسى زرع بصل فى الكرار.. يعنى دماغى تحت وساقاى وقدماى فوق والغطاء الخشبى الثقيل قد سقط على قصبتى الساقين، وعبثا أحاول تعديل وضعى حتى كدت أن أختنق، وبدأ البكاء خفيفًا ثم علا إلى نهنهة، ثم نحيب، ثم صراخ، إلى أن سمعونى وأخرجونى... وعلقة!.

كانت جيعة الكرار فى الدار القديمة تعلو عن أرضية وسط الدار التى كل جدرانها بالطوب النئ «اللبن»، وعليها «لياسة»- طلاء أو غفاق- بخليط من طمى النيل الذى يحضرونه على ظهور الجمال والحمير من أراضى طرح النهر ومن المناطق التى ينحسر عنها ماء النيل، فى زمن التحاريق، أى الجفاف، ومعه تبن قمح أو تبن فول، ويسمونه «قصلة الفول» وبعض روث الماشية، ويعجن الكل بالماء، وتترك الخلطة لفترة حتى تتخمر.

وربما كان الروث «الجلة» هو سبب التخمر، بما يحويه من بكتيريا أمعاء الحيوان، وبواسطة الأيدى توزع اللياسة على الجدران، ثم تتم تسويتها وضبط سمكها- ليكون واحدًا فى كل المساحة- بواسطة اللحوقى، وهو صينية من النحاس الأحمر أو الأصفر قبل ظهور الألومنيوم، لها حواف عالية قليلًا وتستخدم فى طهو الطعام، خاصة صيادية السمك أو الفتة، ويمسكون به ليكون قاعه خارجى المستوى هو أداة تسوية اللياسة أى الغفاق!.

وكانت «الجيعة» مظلمة- كما أسلفت- ويبدو أن الحرص على ظلمتها هو الحل لمنع الذباب من دخولها والتكاثر فى محتوياتها، وإذ تدخلها تشم الروائح التى لا يمكن أن تسقط من ذاكرة الأنف.. رائحة السمن البلدى تفوح من «برانى»- جمع برنية، وهى وعاء فخارى مصقول لتخزين السمن- ورائحة الجبن الحادق القديم فى المش، ورائحة الباذنجان والخيار المحدقين «المخللين» ومعهما الليمون المعصفر أو اللفت، ورائحة الخضار الطازج، خاصة الخيار والطماطم، المفرودين على شوال من الجوت «الخيش»، والعجيب أنه كان لتلك الخضروات رائحة وطعم مميزان، وكانت لا تتلف لمدة طويلة، وإذا مر زمن طويل فإنها تتكرمش وتجف، فتكون مناسبة جدًا للتحديق، أى التخليل، ولم تكن «تمور» أى تهترئ وتصيبها اللزوجة والتحلل، كما هو الحال الآن، رغم وجود التبريد فى الثلاجات!.

ولو استطردت فى محتويات الكرار لما توقفت، لكننى لا أنسى حكاية يوم «العزلة» وتقسيم أرض الغيط وأرض الجرن والبهايم وحطب الوقيد من عيدان القطن والذرة الجافة وأقراص الجلة.. ثم الدار نفسها ومحتويات «جيعة الكرار» بين جدى وجدتى وأبنائهما وبين ابن شقيق جدتى، الذى ربياه حتى كبر هو وإخوته وتزوج وأنجب وأهدياه فرسًا عربيًا أصيلًا.. وتلك قصة أخرى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من قاع الكرار من قاع الكرار



GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

GMT 22:12 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

استراتيجة ترمب لمكافحة الإرهاب وتغيرات تكتيكية

GMT 22:05 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الحليب والسلوى

GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt