كل من يتابع التطورات على الساحة الليبية يجد أن هناك إصرارا غريبا على اختطاف مؤسسات الدولة، ومنح السيطرة عليها لميليشيات مسلحة تتحكم فى قرارات تصدر عن قيادات تجلس على مقاعد رسمية لها علاقة بأموال ومصير الشعب الليبي.
المثير أن الجهات التى تتولى هذه المهمة لم تخجل من التصاقها سياسيا وأمنيا مع أهداف عصابات كبدت المواطنين خسائر فادحة طوال السنوات الماضية. ولم تتعظ من نتائج التداعيات السلبية الناجمة عن هيمنة جماعات إرهابية، وما سببته تصرفاتها من وضع جزء معتبر من ثروات ليبيا رهينة لأهوائهم ونزواتهم الشخصية والأيديولوجية. المعارك التى اندلعت فى طرابلس مطلع 26 أغسطس الماضي، تختلف تماما عما سبقها من مناوشات واشتباكات، لأن هناك طرفا مهما (اللواء السابع- مشاة) دخل المعادلة من الصعوبة تجاهله فى أى ترتيبات أمنية. وما لم يتم تصويب الأخطاء العسكرية التى أفضت لتنحية القوى النظامية لصالح سلطة الميليشيات ستكون هناك أزمات مضاعفة.
المشكلة أن دوائر مختلفة، فى السلطة وعلى هامشها، تتولى توفير الغطاء السياسى لهؤلاء. والتعامل معهم باعتبارهم جهة ضامنة للأمن فى طرابلس، وهو ما منحهم شرعية كبيرة، جعلتهم يتغولون داخل غالبية الهيئات المحلية. البعض من القوى الدولية لم يتورعوا عن عقد صفقات مع كتائب مسلحة اعتمدوا عليها فى تأمين المصالح، وقدموا لهم خدمات جليلة أضفت عليهم طابعا رسميا. فعندما تلجأ دولة لقادة ميليشيات بذريعة حماية بعثاتها الدبلوماسية وشركاتها الاقتصادية وبعض المعسكرات الإنسانية التابعة لها لن تتوقع أن تمارس هذه الدولة ضغطا عليهم. هناك من يصر على غض الطرف عن المخاطر التى تحملها هذه الممارسات، ويتجاهل المصائب التى نجمت عن توفير التفافات أمنية لقوى غير نظامية الفترة الماضية. والأدهى أنه يحاول تكرار مآسى الخطة التى وضعها الجنرال باولو سيرا المبعوث العسكرى السابق للأمم المتحدة فى ليبيا، والتى منحت الميليشيات حضورا قانونيا فى طرابلس، ما أدخل العاصمة فى دوامة من العنف لن تتوقف سوى مع تبنى خطة بديلة تعيد إحياء دور المؤسسة الأمنية النظامية.
المفارقة أن غسان سلامة المبعوث الأممي، الذى يسعى لتحاشى مشكلات نجمت عن تصوراته السياسية والأمنية السابقة، أوقع نفسه فى أزمة بالغة، فهو لوح بفرض عقوبات على قادة ميليشيات، ولا يزال يؤمن بأن نفوذهم يصعب تجاهله دون أن يسأل نفسه عن النتائج البعيدة لهذه السياسة. فإذا كان عامان مضيا من الاعتماد على زعماء حرب ومدمنى مخدرات ومهربى بشر، تسببا فى كل هذه الخسائر، فما بالنا إذا تم تمديد حضورهم لفترة أخري؟
بالطبع لن توجد بارقة أمل للتسوية السياسية التى تتمناها مصر وقوى دولية أخرى حريصة على خروج الدولة الليبية إلى بر الأمان، لأن دبلوماسية الطبطبة التى يمارسها البعض سوف تقود إلى تنحية الدور الحيوى للمؤسسة العسكرية الوطنية، وتجعل من عملية السلام رغبة بعيدة المنال.الطريقة التى تدار بها الأمور من جانب غسان سلامة ورفاقه، تميل إلى التصميم على تكرار إجراءات فاشلة بكل ما تنطوى عليه من أخطاء مريرة وتحديات قاسية. فالتحركات التى تجرى الآن بشأن الترتيبات الأمنية الجديدة، كبديل عن تلك التى سقطت مؤخرا بحكم الأمر الواقع، تتمسك بضرورة الحفاظ على دور مهم للمسلحين تحت زعم الضبط السريع للانفلات الحاصل فى العاصمة، والذى أحد أسبابه الحضور الطاغى للميليشيات.
مسار توحيد المؤسسة العسكرية الذى قطعت فيه مصر شوطا كبيرا، الوحيد الذى يستطيع حل الأزمة الأمنية فى طرابلس وغيرها من جذورها. بموجبه يمكن فك شفرة الميليشيات المستعصية، لأن وجود قوة نظامية غير مؤدلجة وبعيدة عن الجهوية كفيل بالقضاء على جميع مظاهر التسلح اللافتة فى ليبيا. وكفيل بتوفير ضمانات جيدة لأى فصيل سياسى يحقق نجاحا فى الانتخابات المقبلة، التى يعد عدم توافر الأمن أحد أسباب تأجيل انعقادها.
الاتجاه الذى تتبناه بعض القوى السياسية لتعطيل مبادرة توحيد المؤسسة العسكرية أو القفز على مكتسباتها المعنوية، لن يمكنهم من تمرير مخطط بقاء المعادلة السابقة على حالها، لأنه لا يوجد أمن مضمون فى العالم يعتمد على عصابات مسلحة, حتى لو جرى تقنين أوضاعهم .
ألم يتعظ هؤلاء مما جرى فى الصومال، الذى تفكك بفعل تكريس دور الميليشيات، ما أفشل الجهود الرامية لتوحيد أرضه ومؤسساته؟ ربما تكون بعض القوى الغربية، التى أدت تصرفاتها الخاطئة وتدخلاتها السافرة لمأساة الصومال ارتاحت لسيطرة العصابات، ولم تجهد نفسها لاستعادة تماسك الدولة عبر مؤسسة عسكرية موحدة.
الحريصون على وحدة الدولة الليبية لا يريدون لها مواجهة مصير الصومال، لكن التوجهات التى يتبناها المبعوث الأممى ومعه حفنة من الليبيين، سوف تدخل البلاد دوامة أشد لن تفلح معها الجهود السياسية فى المستقبل للإنقاذ. هناك فرصة مواتية لأن تكون الترتيبات الأمنية الجديدة متوافقة مع مصالح الشعب، وليس منسجمة مع مصلحة الميليشيات، ومن يستثمرون فيها سياسيا واقتصاديا وأمنيا. من مصلحة المدن والقبائل الليبية عدم هيمنة طرف على آخر وتجنب الدخول فى محاصصات مناطقية أو طائفية. الطريق الوحيد الذى يضمن التوازن هو إعادة الاعتبار للمؤسسات المحترفة والتى لديها خبرة فى إدارة دولاب الدولة، والابتعاد عن الهواة والسحرة والمسلحين الذين أدت ممارساتهم إلى دخول البلاد حافة الهاوية.
النتيجة التى يخلص بها المراقب للأزمة هى عدم وجود طرف قادر على كسب المعركة تماما، وحتى التحالفات الراهنة بين ميليشيات وقوى سياسية أضحت متغيرة، ولا تستطيع الصمود أمام أى عاصفة قادمة من الشرق أو الغرب أو الجنوب. لأن الصفقات متذبذبة، والتفاهمات لحظية وخاضعة لحسابات ضيقة، الأمر الذى يجعل كل صيغة لتثبيت الأمن فى طرابلس مهزوزة. ومن مصلحة القوى المنخرطة فى الأزمة البحث عن وسيلة جدية، لأن زمن المسكنات انتهي، ودخلت الأزمة الليبية منعطفا حاسما. الفرصة تلوح فى الأفق الآن لوضع قواعد بعيدة المدى للأمن تتسق مع مصالح الشعب الليبي، لأن الدواء المخدر الذى كانت تعالج به الأزمة فقد مفعوله الأمنى والسياسي، وأساء لكل من وقفوا فى صف مسلحين، لأن أياديهم ما زالت ملطخة بالدماء. بالتالى فعودة مؤسسات الدولة لأصحابها الليبيين الحقيقيين المدخل الصحيح لحل الأزمة وتجاوز عقدة الجهوية والميليشيات.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع