توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أخلاقيات السياسة الدولية... أكذوبة أم ضرورة؟

  مصر اليوم -

أخلاقيات السياسة الدولية أكذوبة أم ضرورة

بقلم - حسن أبوطالب

فى بيان أسباب استقالة أنيل شيلين من منصبها لدى مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل في وزارة الخارجية الأميركية، ربطت بين استمرار إدارة بايدن في دعم إسرائيل بالأسلحة وبين عدم قدرتها على القيام بعملها، إذ صارت محاولة الدفاع عن حقوق الإنسان مستحيلة، حسب قولها. أنيل مسؤولة عن دعم حقوق الإنسان بمعناها الشامل في منطقة شمال أفريقيا، بالإضافة إلى السودان، حيث تراقب أوضاع حقوق الإنسان، وأداء الحكومات في الدول محل المتابعة، وواقع سيادة القانون، وآليات التطور الديمقراطي والحريات المدنية، وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني، وتقديم النصائح وممارسة الضغوط، وتقديم الحوافز إن أمكن وصولاً إلى منظومات حكم توافق المعايير الأخلاقية المعلنة للولايات المتحدة.

ومضمون حديث شيلين أن استحالة القيام بالعمل وفقاً لمسؤوليات منصبها راجعة أساساً إلى أن سلوك إدارة بايدن بشأن دعم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة سياسياً ودعائياً وتسليحياً يتناقض تماماً مع منظومة القيم التي تعلن الدفاع عنها، وتَحُث الدول الأخرى على الالتزام بها، ومن ثم لم يعد لديها، أي شيلين، قدرة إقناع الآخرين، وتحفيزهم على تغيير سلوكهم بما يتوافق مع المبادئ والشعارات الأميركية.

قضية شيلين تمزج بين بُعدين مهمين؛ أولهما شخصي يتمثل في الوقوع في تناقض شديد وصراع بين المبادئ والمهام ذات الطبيعة الأخلاقية السامية، وبين السلوك المُعاش والمتصادم مع تلك المبادئ. وهنا لم تستطع أنيل التعايش والتكيف مع هذين النقيضين، ومن ثم قررت الانسحاب من المواجهة لا سيما أن آليات الاحتجاج الداخلي المسموح بها في داخل وزارة الخارجية الأميركية لم تُؤدِّ إلى نتيجة، ولم تعدل من السلوك الفعلي لإدارة بايدن التي استمرت في دعم العدوان الإسرائيلي بكل السبل.

والبعد الثاني يتعلق بإشكالية الأخلاق في السياسة الدولية، ومدى التزام المعايير والقيم في سلوك الدول تجاه الدول الأخرى، في أوضاع السلم أو في أوضاع الحرب والصراع. هذه الإشكالية متجددة وفيها كثير من الاجتهادات النظرية من علماء العلاقات الدولية، والتي امتدت من العلاقات الدولية إلى مجالات تتعلق بأخلاقيات العلم والاكتشافات الحديثة ومدى التزامها بحقوق الإنسان، وخصوصيته وحريته، وتأمين موارد رزقه، كما هي الحال الدائرة منذ سنوات قليلة بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على حياة البشر ومستقبلهم.

جوهر الإشكالية يتعلق أساساً بغياب تعريف جامع لمنظومة القيم ذات المقبولية العامة دولياً، والتي يجب أن تمثل المنهج المشترك للمجتمع الدولي كله، وهنا تؤثر الثقافات والهويات المتعددة للعالم المعاصر في استمرارية الغموض حول مجموع القيم المشتركة، يضاف إليها غياب آليات المحاسبة الفعالة معنوياً ومادياً لمن يخرج عن هذه المنظومة. وقد وجد البعض المخرج في القول بأن هناك معاهدات دولية تخص حقوق الإنسان فردياً وجماعياً، وتحدد مسؤوليات الحكومات في تعزيز تلك الحقوق، كما أن هناك معاهدات تخص سلوكيات الدول أثناء الحروب، وتحدد التزامات دول الاحتلال وحقوق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، وبما يمثل في النهاية قاسماً مشتركاً للإنسانية، يمكن الرجوع إليه لأغراض المحاسبة التي تقوم بها آليات دولية معتبرة، مثل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ووكالات الأمم المتحدة المختصة بحقوق الإنسان ودعم السلم والأمن العالمي. ناهيك عن أن هناك دولاً كبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة أخذت على عاتقها، من خلال سياستها الخارجية، أن تحفظ تلك الحقوق، وتعمل على ترسيخها في بلدان العالم التي تواجه إشكاليات سياسية وعثرات مختلفة تحول دون ترسُّخ الديمقراطية نظامَ حكم، والحقوق الإنسانية منهجَ حياة.

هذا الدفاع عن وجود منظومة قيم توجه العلاقات الدولية يتصادم مع كثير من الأحداث الجارية، كعجز محكمة العدل الدولية عن وقف العدوان الإسرائيلي، وحماية الحد الأدنى من مقومات الحياة للفلسطينيين، وعدم قدرتها على محاسبة إسرائيل لعدم التزامها بالتدابير التي طلبتها المحكمة قبل شهرين. ويبدو التصادم أكثر اتساعاً في سلوكيات الدول الكبرى التى كثيراً ما وضعت مبادئ حقوق الإنسان مرتكزاً رئيسياً في تفاعلاتها مع الدول الأصغر، إلى الحد الذي وصل إلى نوع من الابتزاز لبعض تلك الدول بشقيه؛ محفزات مختلفة تسمح بتدخل مباشر في حياة ونظم الدول المستهدفة، أو توقيع عقوبات وحصار سنوات طويلة، ولم تؤدِّ إلى تغيير قناعات الدول المحاصرة قيد أنملة.

في حالة العدوان الإسرائيلي المدعوم أميركياً على قطاع غزة تتجسد إشكالية التناقض بين الادعاء وبين الفعل على الأرض. وتبدو عبارة السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز كاشفة لعمق الفجوة بين الشعارات والأداء، إذ ينتقد إدارة بايدن التي تتوسل رئيس الوزراء الإسرائيلي لقبول هدنة لمدة أسبوعين، وفي الوقت ذاته ترسل له مزيداً من الأسلحة والصواريخ بمليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، حسب قوله، بل يمتد التناقض إلى حد الادعاء بالتركيز على حماية المدنيين العزل في قطاع غزة، وفي الوقت نفسه تُقْبَل خطة إسرائيل العسكرية لاجتياح رفح، ولا تقلل النصائح الأميركية بضرورة حماية المدنيين قبل الشروع في خطة الاجتياح البري، من فجوة التناقض، بل ترسخ وجودها، وترسخ انهيار البعد الأخلاقي في السياسة الأميركية كلها.

استحالة الدفاع عن حقوق الإنسان من قبل الدبلوماسيين الأميركيين، كما أشارت شيلين، لم تظهر مؤخراً بين مرور 6 أشهر على تدمير القطاع وتجويع أهله، وامتناع الإدارة الأميركية عن اتخاذ أي موقف عملي يظهر احترامها المزعوم لحقوق الإنسان الفلسطيني، بل ظهرت منذ الأسبوع الأول للعدوان الإسرائيلي، ففي لقاء طلبه دبلوماسيون أميركيون، عرضوا فيه حق إسرائيل في الانتقام اللامحدود، وإدانة كل مظاهر مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كان من اليسير تحويل دفة اللقاء إلى حق الشعوب في النضال ضد الاحتلال وحقها في تقرير المصير، فضلاً عن بيان المسؤولية الأميركية في رفع مستوى العجرفة الإسرائيلية، والتملص من كل الالتزامات الخاصة بتيسير عملية سياسية تؤدي لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، تنهي الصراع.

قد يتفهم كثيرون ضغوط الانتخابات الرئاسية الأميركية والرغبة في تأييد اللوبي الصهيوني، وتأثيرهما في موقف إدارة بايدن الرافض تماماً ممارسة أي قدر من الضغط الفعلي على حكومة الحرب الإسرائيلية، ليس لوقف القتال، بل لمجرد هدنة لعدة أسابيع، بيد أن هذا التفهم لن يمحو إطلاقاً السقوط الأخلاقي للسياسة الأميركية لسنوات طويلة جداً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أخلاقيات السياسة الدولية أكذوبة أم ضرورة أخلاقيات السياسة الدولية أكذوبة أم ضرورة



GMT 09:44 2025 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

GMT 22:12 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

استراتيجة ترمب لمكافحة الإرهاب وتغيرات تكتيكية

GMT 22:05 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الحليب والسلوى

GMT 10:43 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt