توقيت القاهرة المحلي 17:14:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مسيرة النيل العسيرة الى مصر

  مصر اليوم -

مسيرة النيل العسيرة الى مصر

بقلم - طه عبد العليم

 من لا يعرف قصة حياة النيل لا يعرف قصة تكوين المكان والمكانة! فمصر واحة مدينة بمكانها الطبيعى الى نهر النيل, بقدر ما هى مدينة بمأثرة مكانتها الحضارية للإنسان المصرى. فلولا النيل, بمنابعه الاستوائية ثم بمنابعه الحبشيةمصر لما توافرت البيئة التى مكنت المصريين من ترويض النهر الجامع واكتشاف الزراعة ورى الحياض والمبادرة بصنع الحضارة الانسانية؛ حين هبطوا الى وادى ودلتا النيل مع حلول عصر الجفاف محل العصر المطير قبل عصر الأسرات الفرعونية. ولأن الجهل الجغرافى بأصول نهر النيل عار على أمة طوعت الجغرافيا فى قلب العالم؛ أبدأ هنا بايجاز قصة هبوط النيل الأزرق من أثيوبيا الى مصر.

ونقرأ للعالم الألمانى لودفيج إيرهارد فى كتابه العميق البديع: النيل حياة نهر، أولا: أنه من الصعب معرفة أى النيلين، الأزرق والأبيض، أهم من الآخر، فأكبر الأخوين ضامن حياة وأصغرها صاحب عبقرية. فلولا الأبيض لماتت مصر عطشاً فى فصل الجفاف، ومن حيث غزارة الماء فى فصل الفيضان يُعَد النيل الأزرق مصدر النيل بأسره. والنيل الأزرق وليد الرياح الموسمية والأمطار الغزيرة والجبال الشاهقة. فلولا جبال الحبشة البركانية الشاهقة، التى تلطمها الرياح الموسمية فتصب عليها سيول المياه من بُخارٍ تحمله السُحُب ألوف الكيلو مترات. ولولا وصول الرياح فى الوقت المناسب وفى الاتجاه المرتقب ما تكون النيل الأزرق خارجا من بحيرة تانا ومتجاوزا إياها، لينحدر من الجبل الشاهق، منساباً نحو السهل، فينحت فى طريقه أخاديد عميقة فى الصخور البركانية؛ تجرى منها سيول نحو الغرب، وحينما يبلغ الحجارة الرملية يشقها شقاً خفيفاً ويلاقى الصخور الأبكار، ويفصل جوامد فيخلطها بتراب صالح للنبات فى أثناء جريانه، فيتكون الغرين (الطمى)، الذى يكوّن تربة خصبة فى واحة مصر الصحراوية، التى ما كانت لتوجد لولا النيل، أو توجد على خلاف ما هى عليه بغيره.

ويبلغ المطر أقصى قوته فى وسط شهر يونيو من كل عام كما تدل سجلات المصريين منذ ألوف السنين، مع اختلاف كبير فى مقاديره كل سنة، وما أكثر أجيال المصريين التى تابعت ورود الفيضان الذى لولاه لهلكوا. وفى مصر تسجل مقاييس النيل مستوى الفيضان منذ آلاف السنين. والحركة الأولى للنيل الأزرق، عند خروجه من بحيرة طانة، تكشف عن عبقرية فى سجيته، فهو يجوف لنفسه ممراً عميقاً فى الصخر، وتبلغ أمواجه الفائرة من سرعة الاندفاع ما تهبط معه 1300 متر فى ثمانين كيلو متراً، ويحمل عنصر عمله المقبل، يحمل الغرين مبدياً حيويته وإنتاجه من أول الأمر. وينخفض ماؤه فى الموسم الجاف، فلا ينقل أكثر من اثنين فى المائة من مواد الغرين، فيبدو فى الغالب أزرق صافياً، ومن هنا اسمه. وكان الفيضان يغمر مصر فى فصل الصيف، فيخصب الحقول الجافة بالغرين ويكون الشتاء لطيفاً فينبت الحب، ويأتى الفيضان فى الوقت المناسب، على عكس الفيضان الذى يغمر العراق.

وثانيا، أن جريان النيل الأزرق يدل على الوجه الذى يبلغ النهر فيه مصيره، مقتحماً ومجاوزاً جميع الحواجز، ومدركاً مكان نهايته وزمان غايته، وفق السنة المفروضة عليه والتى تجر نهراً إلى نهر آخر، رغم كل مقاومة تنشأ عن الشلالات والصحراوات والمنعطفات المستمرة. وتصب أنهار وجداول ثلاثون مياهها فى بحيرة تانا، أهمها الأباى الأكبر (مسمى النيل الأزرق فى أثيوبيا)، وهو الوحيد الذى يخلُص من البحيرة، بينما يتوارى الأباى الأصغر فيضيع كثير من مياهه. ويجرى الأباى الأكبر نحو الجنوب الشرقى وصولاً إلى الشمال الغربى، لأن الجبال التى ولد فيها تسد طريقه، فيدور بانحناء منسجم حول جبال (غوجم) منعطفاً مرتين؛ ليصل إلى النيل الأبيض، الذى كان أقرب إليه فى منبعه. وتبلغ أمواجه الفائرة من سرعة الاندفاع ما تهبط معه 1300 متر فى ثمانين كيلو متراً، ويحمل عنصر عمله المقبل، يحمل الغرين مبدياً حيويته وإنتاجه من أول الأمر.

وحين دخول النيل الأزرق سهل السودان، وحيث لا جبل يوقفه لا يسلك أقصر السبل، بل يتجه إلى الشمال الغربى، مثل اتجاه جميع روافده الشرقية، ومثل اتجاه النيل الأبيض. ويبلغ النيل الأزرق السودان، ويتجه إلى هدف غير معروف، ويكون فى الرصيرص، أى على 650 كيلو مترا من الملتقى، ومن شدة العمق والاتساع تزيد به مقاومته. وينضم إلى النيل الأزرق من الناحية اليمنى رافدان من فورهما وعلى مسافة قصيرة بينهما، هما الرهد والدندر، ويقع منبع كل منها على الهضبة الشمالية الغربية من بحيرة طانة، ويتوجهان إلى الشمال الغربى فى بدء الأمر، ثم يبدوان موازيين للنيل الأزرق. وينبع الرافد الثالث وهو العطبرة بالقرب من الرافدين المذكورين، وهو آخر رافد للنيل وأنفعها فى أشهر نشاطه الثلاثة، ويلاقى النيل الأزرق على بعد ثلاثمائة كيلو متر من التقائه بالنيل الأبيض عند الخرطوم.

وثالثا، أنه عند الخرطوم بين النيلين الأبيض والأزرق، يصل منبع النيل بمصبه، وقد أعطى الخرطوم اسمها أمير مصرى فتح مكان التقاء النيلين بسبب شكل الجزيرة الموجودة هنالك. وحين يتعانق النيلان عناق الأخوين لن ترى غير نيل واحد بعد الآن. وحيث لا يعترض النيل جبل يترك اتجاهه نحو الشمال وينعطف، فيرسم حرف S فى رمل الصحراء، وكان يمكن أن يضيع شرقا أو غربا لكنه يعود مجددا نحو الشمال، نحو مصر. والنيل يجرى منذ ألوف السنين إلى البحر نفسه، ماراً من الصحراء المحرقة عاطلاً من مطرٍ أو صديق أو رفيق فيجد بأمواجه ما ينعشه، ويوقف النيل حاجز من الصوانٍ فيدور حوله ويسترد قواه ونشاطه ولا يخسر بأسه ولا يجف، ويشق لنفسه طريقاً بين رمال لا حد لها؟، ويقهر الشلالات والجنادل فيقرض فى ستة كيلو مترات من النيل الأوسط، طريقه كما قهر المناقع، ويقاوم الجفاف كما قاوم الأهوار، ويصل إلى مصر التى أوجدها؛ وما فتىء يرويها منذ الأزل.

فياله من نهر لم يجد ما يوقف تدفقه، ولن يوجد من يوقف مسيرته الى أرض الكنانة!.

 

نقلا عن الاهرام القاهريه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسيرة النيل العسيرة الى مصر مسيرة النيل العسيرة الى مصر



GMT 02:56 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

«حماس» 67

GMT 02:50 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

نهاية مقولة «امسك فلول»

GMT 02:30 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الإعلام البديل والحرب الثقافية

GMT 02:26 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

«الدارك ويب» ودارك غيب!

GMT 02:11 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الاستثمار البيئي في الفقراء

GMT 16:02 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها
  مصر اليوم - طرق سهلة لتحسين صحة الأمعاء والحفاظ عليها

GMT 13:43 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

يتيح أمامك هذا اليوم فرصاً مهنية جديدة

GMT 10:39 2022 الثلاثاء ,19 تموز / يوليو

الأهلي يسوّق بدر بانون في الخليج والرجاء يريده

GMT 11:36 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

النجم الألماني مسعود أوزيل يختار الأفضل بين ميسي ورونالدو

GMT 04:38 2020 الثلاثاء ,25 آب / أغسطس

دنيا سمير غانم تتألق رفقة زوجها

GMT 20:38 2020 الأربعاء ,22 تموز / يوليو

كوريا الجنوبية تسجل 63 إصابة جديدة بكورونا

GMT 13:16 2019 الخميس ,17 كانون الثاني / يناير

طريقة سهلة لتحضير الهريسة الحلوة

GMT 11:35 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إنتاج الجيل الثالث من المحفظة الذكية المضادة للسرقة

GMT 21:19 2017 الأحد ,04 حزيران / يونيو

زهير مراد يعلن عن فساتين زفاف لربيع وصيف 2017

GMT 15:06 2013 الإثنين ,20 أيار / مايو

خان الخليلي وجهة سياحية مصرية لا تُعوض

GMT 15:15 2021 الأربعاء ,21 تموز / يوليو

حمادة هلال يتصدر تريند يوتيوب بكليب «أم أحمد»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon