توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حمام الدار

  مصر اليوم -

حمام الدار

بقلم - نيفين مسعد

اصطف الشابات والشبان علي الجانبين في انتظار توقيع الكاتب الكويتي سعود السنعوسي روايته الجديدة "حمام الدار". جلس الكاتب أمام مائدة طويلة تفصل بين طابورٌي الشباب من الجنسين، عنده ينتهي الطابوران أما بدايتهما فتمتد خارج مبنى مكتبة تنمية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب. كان المشهد يفرح القلب ويعطي بصيصا من أمل، وسط تفاهات كثيرة تبحث هذه العقول النضرة عن عمل جديد جاد لروائي جاد، تتهلل ملامح الشباب وهم يأخذون صورا سيلفي بلا حصر مع سعود السنعوسي ويدفعون إليه بنسخ من روايته الأخيرة ليكتب إهداء لعزيزته فلانة أو عزيزه فلان. وسط الزحام الشديد يغلق كل ممرات المكتبة أصادف إحدى طالباتي تعافر في الوصول إلي الداخل وتنجح في أن تحجز لها مكانا في طابور الشابات. هؤلاء القرّاء من كل أنحاء الوطن العربي هم من صنعوا نجومية السنعوسي، من قال إن العملة الرديئة دائما ما تطرد العملة الجيدة من السوق؟ ها نحن أمام عملة جيدة وهاهم الشباب يقبلون على تداولها بثقة كبيرة . جمال المشهد لا ينبع فقط من علاقة السنعوسي بقرائه لكنه ينبع من المكان الذي احتضن هذا المشهد، مكتبة تنمية هي مكتبة يعرف كل من فيها ماذا يبيع، تطلب رواية فيرشحون لك ما يناظرها ويقارنون بين الروايتين بفهم واحتراف، تسأل عن باب من أبواب الأدب العربي فيهدونك إلي ضالتك ويزيدون بعمل أو اثنين من الأدب العالمي ليفتحوا أمامك نافذة على الآخر .

***

ألتقط نَفَسا عميقا قبل أن أدلف إلى أحدث أعمال سعود السنعوسي "حمام الدار" ، فهذه الرواية تحتاج شهيقا من نوع خاص يليق بها ففيها يبدو السنعوسي كما لو كان قد غيّر جلده، أو نَقَلَ حكيه من طبقة أدبية إلى طبقة أدبية أخرى. لا تشبه "حمام الدار" رواية السنعوسي الأشهر "ساق البامبو" فهي تقع في مسافة بين الواقع والخيال أو بين الحقيقة والوهم، ومع أن فيها بعض روائح من روايته " فئران أمي حصة" إلا أنها أكثر منها تجريدا بما لا يقاس، هي تنويع علي بعض أعمال الأديب الإسباني ميغيل دي أونامونو وبالذات روايته الملغزة " الضباب " التي يتأرجح فيها وعيه بين الوجود وعدم الوجود. هي ليست رواية تصاحبنا في رحلة قطار أو في مسافة انتظار، بالتأكيد هي ليست كذلك.

***

جوهر الرواية هو علاقة الأديب بشخوص رواياته فهو يشكلها ويرسم أدوارها ويدس نفسه بينها، ثم هو قد يعيد تشكيلها وبعد أن ينفخ روحه في حمامة أو عنزة إذا به يسحبها ليُسكنها بشرا مثلي ومثلك. لكن شخوص الراوي ليست على الدوام سهلة لينة تتقمص الأدوار التي تُكتب لها، فها هي بين الحين والآخر تحاوره وتناكفه.. تتعجل مصائرها حين يقف قلمه علي مفترق نهايتين.. وقد تمضي خطوة أبعد فترفض أن تكون علي الصورة التي اختارها لها وهذا حال أبطال رواية "حمام الدار". في الصباحات الخمسة الأولى من صباحات الرواية يتحرك الكهل الخمسيني عرزال بن أزرق في محيط ضيق بل ضيق جدا، تتكرر أحداثه برتابة شديدة إلى حد تعقُب كل بصقة تبصقها العجوز بصيرة في القصعة المجاورة لها تحت بئر السلم، مهجوس هو بمصير حماماته الست تعود من رحلتها اليومية أو لا تعود وقلبه مشطور نصفين، نصف يهاتفه أنها عائدة لأن يٌمة بصيرة مكمن الحكمة وخبرة السنين تحدثه دائما بأن حمام الدار لا يغيب، ونصفه يصارحه بأن بعضها لن يعود فقد أطلق أبوه أزرق الحمامتين زينة ورحّال على غير العادة بعيدا وراء الحدود، بالفعل لم تعد الحمامتان وماتت بصيرة على فرشها الكالح فلم يحس بها أحد، هل ماتت بصيرة لأن نبوءتها لم تتحقق وغاب حمام الدار الذي قالت إنه لا يغيب أم أن زينة ورحّال رفضا الإياب لدار لم تعد توجد بها بصيرة ؟ في هكذا نص كل الإجابات واردة .

***

لم يفقد عرزال حمامتيه فقط في المجهول الأزرق لكنه فقد أيضا قٌطنة هذه العنزة شاهقة البياض التي كان يلاطفها فتعطيه لبنها عن طيب خاطر، قتلها هو مستخدما رش بندقيته حين كان أبوه يعلمه الرماية فرماها دون قصد ، حزن .. التاث .. وقبل أن يهرب إلى بئر السلم احتضن قطنة الجريحة بين ذراعيه في مشهد لا أبدع من تصويره . لاحقا سنعرف أن قٌطنة ليست عنزة بل هي أخته أو ابنة عمه أو ابنة خاله والأرجح أنها ابنة العبدة التي اشتراها والده .

***

وفي الصباحات الست التالية تتغير الأسماء وتتناسخ الأرواح أكثر فأكثر، يتحول عرزال بن أزرق إلى منوال بن أزرق، وتتحول الحمامتان الغائبتان إلى أخوين من إخوة منوال الستة ابتلعتهما زرقة البحر كما ابتلعت زرقة السماء الحمامتين من قبل، وتتحول فيروز إلى أمه التي تعلق بها عرزال وصار حبه لها مبررا إضافيا لقسوة أبيه عليه. فيروز هي الحمامة الأم التي كانت قد وضعت فرخين أسماهما الراوي زينة ورحّال حتى يظل هذان الاسمان يترددان في الدار رغم اختفاء صاحبيهما الأصليين. في هذه الصباحات نتعرف أكثر على العبدة قطنة وعلى والدتها فايقة هذه المرأة الوفية التي توارثتها أسرة منوال/عرزال. كانت فايقة مثل أفعى الدار التي وصفتها العجوز بصيرة بأنها لا تخون، وقد أصابت بصيرة هذه المرة. هل فعلا كره الراوي اللون الأزرق كما قال؟ سألت نفسي هذا السؤال بعد أن وجدت الراوي يعرب عن كراهيته للأزرق الذي هو اسم والده بالغ القسوة والذي هو لون السماء والبحر اللذان غيّبا زينة ورحّال الحمامتين / الأخوين ورغم ذلك كان الراوي يستخدم اللون بكثافة شديدة في كتابته، ثم قدم لي هو الإجابة حين قال إن كل الألوان زرقاء، والأرجح أنه يقصد أن الزرقة تلازم كل ما هو حزين. عموما ليس هذا هو السؤال الوحيد الذي تطرحه الرواية، فهناك أسئلة عن حالة البين بين التي عليها شخصيات الراوي وأحداثه فالعجوز بصيرة ترى وتتكلم ولا تري ولا تتكلم وأبوه يكذب ولا يكذب وأبطاله يتمردون وينصاعون .

***

إن هذا عمل لا تكفيه قراءة واحدة ولا تمسك بالذي يقصده الراوي من ورائه عين واحدة، أما لغة سعود السنعوسي فرفيعة متقعرة تختار من اللفظ أرصنه ولا تتورع عن نحت مفرداتها الخاصة كما تنحت ملامح الشخصيات فتزيل شامة من هذه الوجنة وتمنح غلظة لهذا الصوت. رواية "حمام الدار" أمتعتني قراءتها ومنحتني أملا في شباب الأدباء.

عن الشروق القاهريه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حمام الدار حمام الدار



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt